علوم وتكنولوجيا

العلامات التجارية تتخلى عن “الفخامة الصامتة”: صعود عصر الجرأة والعودة إلى الجذور

من بيبسي إلى بوربري.. شعارات كلاسيكية وحروف كبيرة تعيد رسم ملامح الهوية في "الزمن الصاخب"

في عالم يتغير بسرعة، لم تعد العلامات التجارية الكبرى تسعى إلى إرضاء الجميع أو الاختباء خلف ستائر “الفخامة الصامتة” وشعارات التواضع المبالغ فيه. بدلاً من ذلك، تتبنى هذه العلامات الآن ما يُعرف بـ”الهوية غير الاعتذارية” وتغوص في تيار ثقافي جديد يعيد الاعتبار للتقاليد، والهوية البصرية الصارخة، والتمسك بالماضي كوسيلة لبناء المستقبل.

هذه التحولات لا تأتي من فراغ، بل تعكس رد فعل على موجة ما بعد الحداثة، والتمرد على نمطية التصميم الموحّد، وأيضًا على صعود تيارات سياسية محافظة جعلت من التعبير عن الذات بشكل مباشر – وربما فوضوي – سلوكًا مقبولًا من جديد. وفقاً لتقرير صحيفة ” فايننشال تايمز”

جاكوار والتوقيت الصادم لإعادة التمركز الثقافي

في نوفمبر 2024، وبينما كانت الولايات المتحدة تعيد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وسط موجة رفض للسياسات التقدمية، أطلقت شركة جاكوار البريطانية العريقة إعلانًا بدا وكأنه يغرد خارج السرب. الإعلان الذي غاب عنه أي ظهور لسيارات، وامتلأ بنماذج بشرية متنوعة الشكل والخلفية، بدا وكأنه محاولة مستميتة لمجاراة مفاهيم “الشمولية” و”التنوع” بطريقة ساذجة وغير مرتبطة بجوهر العلامة.

لم تكن المفاجأة فقط في مضمون الإعلان، بل في الهوية البصرية الجديدة: “جاكوار” أصبحت “jaGuar” – بحرف G كبير فقط – وخط عصري غير مميز، مع اختفاء “النمر القافز” الشهير. كل ذلك تحت شعار: “لا تُقلد أحدًا”، في حين بدا أن الشركة تقلد الجميع.

اقرا أيضاً:

قرب الإفراج عن رهائن من غزة وسط مساعٍ لهدنة لمدة 60 يومًا

العودة إلى الخطوط الكلاسيكية: من بوربري إلى بيبسي

بينما وقعت جاكوار في فخ الحداثة الباردة، اتجهت علامات أخرى نحو استعادة تراثها بحكمة. فدار “سان لوران”، التي تخلت عن اسم “إيف” في 2012 لصالح خط بسيط وأنيق، عادت مؤخرًا إلى خط مميز ذي طابع كلاسيكي. وكذلك بوربري، التي نبذت هويتها البصرية “المعقمة” التي تبنتها عام 2018، لتعود إلى شعار الفارس الأيقوني ونمط خطوط مستوحى من أرشيفها العريق.

هذه القرارات لم تكن عشوائية. فالخطوط القديمة تحمل طابعًا من الدفء والثقة والتميّز، على عكس الشعارات منخفضة الحروف التي انتشرت بين شركات وادي السيليكون في العقود الأخيرة مثل “إيباي” و”إير بي إن بي”، والتي ارتبطت بالبساطة والانفتاح ولكنها أصبحت رموزًا لفترة فقد فيها العالم الثقة بالتكنولوجيا.

عودة الحروف الكبيرة: تعبير عن القوة والرجولة

التحول نحو استخدام الحروف الكبيرة في شعارات العلامات – كما في عودة بيبسي إلى شكلها التسعيني – يعكس ما وصفه البعض بـ”الطاقة الذكورية الجديدة” في الثقافة الشعبية. دراسات عدة أظهرت أن الحروف الصغيرة في الشعارات ترتبط بمفاهيم “أنثوية” وودية، بينما الحروف الكبيرة تنقل الإحساس بالسلطة والجرأة والثقة.

وبينما كان إطلاق بيبسي لهويتها السابقة عام 2008 يتزامن مع الأزمة المالية ورغبة في الابتعاد عن صورة الشركات الجشعة، فإن عودتها الآن للحروف الكبيرة تشير إلى لحظة ثقافية مختلفة: لحظة احتفاء بالوضوح، والبساطة، وربما قليل من “الوقاحة الإيجابية”.

موت الفخامة الصامتة وصعود “الزمن الصاخب”

وفقًا لمحلل الاتجاهات شون موناهان، نحن نعيش الآن في عصر “الجمالية القوية” أو ما يمكن تسميته بـ”الزمن الصاخب”، حيث يعاود البذخ والتفرد والاستعراض العودة إلى الواجهة. مجلة “بريتيش فوغ” أعلنت في ديسمبر الماضي وفاة موضة “الفخامة الصامتة”، التي ارتبطت بالكآبة الاقتصادية وظهور الطبقة التكنولوجية الجديدة.

لكن التحولات في الهوية البصرية ليست فقط انعكاسًا للذوق العام، بل أيضًا لمخاوف المجتمع. فبينما ارتفع مستوى الثقة بالبنوك في السنوات الأخيرة، انخفضت ثقة الأمريكيين بشركات التكنولوجيا، وسط تزايد القلق من الذكاء الاصطناعي والهيمنة الرقمية. ومن ثم فإن العودة إلى رموز بصرية كلاسيكية ومألوفة تبدو وسيلة للاتصال العاطفي ولتهدئة الخوف الجماعي من المستقبل المجهول.

بين الأصالة والافتعال: من يملك الجرأة الحقيقية؟

الدرس الواضح من قصة جاكوار ومنافسيها هو أن الجرأة الحقيقية لا تكمن في مسايرة الموجة، بل في الوقوف بثقة على أرضية الماضي وبناء الحاضر انطلاقًا منها. بينما سعت بعض الشركات إلى إرضاء كل الأصوات وانتهت بهوية ضائعة، اختارت أخرى أن تعيد الاعتبار لما يجعلها متميزة – ليس بالضجيج الفارغ، بل بالأصالة المتجددة.

في زمن يعج بالتغيّرات، تصبح الجرأة هي الحفاظ على الروح وسط العاصفة. فليس كل من رفع صوته يُعد شجاعًا… أحيانًا يكون الصمت الموروث أبلغ من الصخب المستعار.

اقرا أيضاً:

نتنياهو يتمسك بالسلطة على حساب الدماء: الحرب في غزة رهينة طموح سياسي

الأء ياسين

صحفية مصرية تحت التدريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى