عربي وعالمي

فجوة بين السياسة والشعوب..غزه تكشف صمت الأنظمة وصوت الضمير الشعبي

فجوة خطرة بين السياسة والشعوب: غزة تكشف صمت الأنظمة

من بين وصفات الطهي وأحاديث الأمومة على أثير “راديو بي بي سي 4″، تسللت فجأة دموع الشيف البريطانية من أصل إيراني ياسمين خان، لتقاطع ترويجها لكتابها الجديد باعتراف موجع: لا يمكنها الحديث عن صعوباتها في الرضاعة، بينما أمهات غزة عاجزات عن إطعام أطفالهن الجوعى. هذه اللحظة العابرة لخصت ما لم تستطع الخطابات السياسية قوله طوال أشهر: أن غزة لم تعد مجرد عنوانًا في نشرات الأخبار، بل أصبحت وجعًا إنسانيًا يتسرب إلى الحياة اليومية للناس في الغرب، بمن فيهم من لا يتابعون الشأن السياسي. الصور القادمة من القطاع لا تحتاج إلى شرح، وملامح الأطفال الهزيلة باتت تختصر الكارثة بلغة لا تحتاج إلى ترجمة. لكنها أيضًا كشفت عن أزمة أعمق: انفصال السياسيين عن وجدان مجتمعاتهم، وفشل متراكم في تمثيل الضمير العام في واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية المعاصرة.

 

الجوع كأداة حرب

لم يعد الموت جوعًا في غزة نتيجة كارثة طبيعية، بل أصبح وفق تعبير منظمة الصحة العالمية “تجويعًا ممنهجًا من صنع الإنسان”. منذ مايو، قُتل أكثر من ألف فلسطيني أثناء بحثهم عن الطعام، بحسب الأمم المتحدة، بينما يعجز العاملون في “أطباء بلا حدود” عن شراء أي شيء رغم تقاضيهم أجورًا. الأسواق فارغة، والمساعدات محدودة، والاختيار بات مرعبًا: الموت من القصف أو الموت من الجوع. هذه ليست مجرد أزمة إغاثة، بل انهيار كامل لمنظومة إنسانية تساقطت أخلاقيًا قبل أن تنهار ميدانيًا.

 

الإعلام المحلي يتصدع.. والبديل شعبي

في غياب الصحفيين الأجانب عن غزة، خاطر الصحفيون الفلسطينيون بحياتهم لنقل الوقائع، لكن حتى هؤلاء باتوا غير قادرين على العمل بسبب الجوع والإنهاك. وكالة “فرانس برس” تحدثت عن مراسليها المحليين الذين أصبحوا حرفيًا أضعف من أن يُكملوا مهامهم. في المقابل، يظهر تواطؤ السلطات الغربية في التعتيم، مع تصاعد حملات القمع ضد الناشطين المؤيدين لفلسطين، بينما يُسمح في الوقت ذاته لاحتجاجات أخرى معادية للاجئين بالتمدد، في مفارقة أخلاقية صارخة.

 

النواب في مأزق.. والحكومة تتهرب

داخل حزب العمال البريطاني، يشعر العديد من النواب بأن حكومتهم تخذلهم وتخذل ناخبيهم. التنديد اللفظي لم يعد كافيًا، والمطالبات بالتحرك العملي تتصاعد. البعض يدفع نحو الاعتراف بدولة فلسطينية كخطوة رمزية، لكن الرمز هنا لم يعد كافيًا أمام الجوع والموت. الأصوات ترتفع من داخل الحزب، بل ومن داخل الحكومة، مطالبة بفعل حقيقي، لا سيما أن خيار “الوقت المناسب” للاعتراف الذي كان يُستخدم سابقًا لم يعد مقنعًا، بعد أن تحطم حلم حل الدولتين على أرض الواقع.

 

التعاطف الشعبي يتحول إلى غضب سياسي

رغم تعقيدات السياسة الخارجية، تظهر استطلاعات الرأي أن أكثر من نصف البريطانيين يؤيدون فرض عقوبات على إسرائيل، كتعليق مبيعات السلاح، أو مقاطعة المسؤولين. وحتى داخل الحزب المحافظ، يدعو نواب مخضرمون لاتخاذ موقف واضح تجاه القضية الفلسطينية. هذا التحول لم يأتِ نتيجة حملات حزبية، بل بسبب الصور ومقاطع الفيديو التي يراها الناس كل يوم، ويصعب تجاهلها. لقد أصبحت غزة معيارًا أخلاقيًا واختبارًا علنيًا لكل ما تدعيه الديمقراطيات من مبادئ.

 

صوت لامي وحده لا يكفي

وزير الخارجية ديفيد لامي استخدم لغة قوية، وندد بسياسات إسرائيل “اللاإنسانية”، وأشار إلى ما وصفه بـ”إرهاب المستوطنين” في الضفة الغربية. ومع ذلك، يرى كثيرون أنه لا يزال متحفظًا، ويفضل عدم تجاوز الموقف الأمريكي. تتردد الحكومة البريطانية في اتخاذ خطوات مستقلة، خاصة مع استمرار وجود دونالد ترامب في قلب مفاوضات وقف إطلاق النار. لكن هذا التردد أصبح ثمنه سياسيًا وأخلاقيًا باهظًا، إذ يتزايد الشعور بأن بريطانيا لم تعد تمثل صوتًا مستقلاً أو صاحب مبادئ.

 

الأمن الداخلي أم قمع حرية التعبير؟

في الداخل البريطاني، تحولت قضية فلسطين إلى ملف أمني. جرى حظر منظمة “Palestine Action” واعتبارها مجموعة إرهابية، وتم اعتقال متظاهرين بسبب لافتات ساخرة. أحد المتقاعدين اعتُقل لأنه رفع رسمة كاريكاتيرية من مجلة “برايفت آي”، لتعتذر الشرطة لاحقًا عن “الظروف المزعجة” لاعتقاله. هذه الأحداث أثارت سخرية وغضبًا في آن، وأعادت التساؤل حول حدود حرية التعبير في بريطانيا حين تتعلق القضية بفلسطين، لا بغيرها.

 

الشارع يغلي.. والحكومة مرتبكة

الاحتجاجات خارج مقرات إيواء اللاجئين، إلى جانب تظاهرات داعمة لغزة، تعكس حالة من الاحتقان المجتمعي المتصاعد. لكن الأزمة الحقيقية تكمن في غياب القيادة السياسية القادرة على إدارة هذا الغضب المتعدد الاتجاهات. الشرطة لن تكون قادرة وحدها على كبح جماح التوتر، والحلول الأمنية لن تجيب عن الأسئلة الأخلاقية العالقة في ذهن الجمهور. المطلوب هو استجابة سياسية جادة، لا مراوغات لفظية.

 

مهمة ستارمر المستحيلة؟

بعد عام على توليه رئاسة الحكومة، يواجه كير ستارمر اختبارًا معقدًا: كيف يدير دولة منقسمة، في صيف مضطرب، وسط أزمة إنسانية تزلزل الضمير الشعبي؟ ربما يكون قد أثبت براعة في إدارة السياسة الخارجية بلغة دبلوماسية متزنة، لكنه حتى الآن أخفق في التفاعل مع الارتدادات الداخلية لتلك السياسات. دون إصغاء حقيقي لصوت الشارع، قد يجد حزبه نفسه في مواجهة أزمة ثقة لا تقل خطورة عن الأزمة التي تعصف بغزة نفسها.

اقرأ أيضاً

فاجعه سنترال رمسيس تهز قطاع الاتصالات.. شهداء ومصابون في حادث اليم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى