حين يغرد الغضب: كيف تحول ميدفيديف إلى مؤثر عدواني باسم الكرملين؟
دميتري ميدفيديف: من أمل ليبرالي إلى فزاعة نووية

في إحدى أكثر التحولات السياسية الروسية غرابةً خلال العقود الأخيرة، عاد دميتري ميدفيديف إلى دائرة الضوء، ولكن هذه المرة ليس كوجه إصلاحي أو صوت معتدل داخل أروقة الكرملين، بل كمحرّض علني على التصعيد النووي عبر منصات التواصل الاجتماعي. الرجل الذي كان يومًا يُنظر إليه كجسر ممكن بين روسيا والغرب بات يُشهر تهديداته المبطنة بالدمار النووي على “إكس”، متوجهاً برسائل مباشرة إلى قادة الغرب، وفي مقدمتهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
وسط هذه التحولات، نشرت صحيفة فاينانشال تايمز تقريرًا مفصلاً في أغسطس 2025 يرصد المسار العكسي الذي سلكه ميدفيديف منذ تسلمه رئاسة روسيا عام 2008 وحتى اليوم، حيث لم يعد سوى ظلّ باهت للرجل الذي تلقّى يومًا هدية من ستيف جوبز شخصيًا في وادي السيليكون، وتحدث بشغف عن موسيقى “ديب بيربل” وأحلام روسيا الحديثة.
من الإصلاح إلى الاستفزاز: ازدواج الشخصية السياسية
عُرف ميدفيديف خلال فترته الرئاسية القصيرة (2008–2012) بلغة سياسية هادئة ورسائل مطمئنة إلى العالم، وعقد شراكات دولية، وظهر على قنوات تلفزيونية مستقلة، وأطلق إشارات واضحة إلى رغبة في انفتاح روسيا على الحداثة والعالم الرقمي. لم يكن يفتقر إلى الذكاء أو الكاريزما، لكنه كان دومًا، في نظر الكثيرين، مجرد وكيل مؤقت لفلاديمير بوتين، وليس شريكًا في صناعة القرار.
لكن منذ اندلاع الحرب الشاملة على أوكرانيا عام 2022، برز ميدفيديف كأكثر الشخصيات الروسية تطرفًا في الخطاب العلني. منشوراته المتكررة على منصة “إكس” تحذر من حرب نووية شاملة، وتُهاجم قادة أوروبا والولايات المتحدة بلغة لا تخلو من الإهانة والتحريض. وفي واحدة من أحدث تغريداته، هاجم الإنذار الأمريكي الموجه لبوتين بشأن وقف الحرب، معتبراً كل إنذار بمثابة “خطوة نحو الحرب”.

ترامب يرد والناتو يستنفر
وصل استفزاز ميدفيديف حدًّا دفع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الرد العلني والنادر. ففي بيان نشره عبر منصته “تروث سوشيال”، قال ترامب إن تعليق ميدفيديف “خطير للغاية”، وإنه أمر بإعادة نشر غواصتين نوويتين في أماكن استراتيجية ردًا على هذا التهديد.
هذا التفاعل كشف هشاشة المشهد الدولي أمام لغة إعلامية تتصاعد من منصات التواصل لتدفع الدول إلى خطوات عسكرية فعلية. وعلى الرغم من أن الكرملين حاول لاحقًا التقليل من خطورة التصريحات، إلا أن عودة ميدفيديف إلى التلويح بالخيار النووي بعد ساعات من التهدئة الرسمية أكدت أن تصريحاته لم تكن مجرد لحظة انفعالية.

من الداخل الروسي: ميدفيديف ليس وحده
رغم محاولة بعض المراقبين الغربيين التقليل من أهمية ميدفيديف، يرى محللون روس أن تصريحاته ليست ارتجالية، بل قد تعكس ما يسمعه من الدائرة الضيقة المحيطة ببوتين. يقول الفيلسوف السياسي غريغ يودين: “ما يقوله ميدفيديف لا يجرؤ على التفوه به دون ضوء أخضر من بوتين، حتى لو بدا كأنه جنون”.
وبينما تراجع موقعه الرسمي تدريجيًا — من رئيس، إلى رئيس وزراء، ثم إلى نائب لرئيس مجلس الأمن الروسي — احتفظ ميدفيديف بموقعه قريبًا من مركز السلطة، وهو ما يراه البعض دليلاً على أنه يؤدي وظيفة سياسية معينة، حتى وإن كانت مهمته تنحصر في توجيه الخطاب المتطرف عندما تحتاجه الدولة.

الغموض بين المسرحية والحقيقة
مما يزيد الصورة تعقيدًا هو التباين في التفسيرات حول دوافع ميدفيديف. البعض يرى أنه مجرد دمية يُستخدم لتوجيه الرسائل القذرة، فيما يعتقد آخرون أن شخصيته قد تغيرت بفعل الضغط، أو حتى بفعل الإفراط في تعاطي الكحول، وهي شائعة كثيرًا ما تداولتها وسائل إعلام روسية معارضة، منها تحقيق استقصائي ربط بين توقيت تغريداته النارية وساعات استلام شحنات نبيذ فاخر إلى فيلا يُقال إنها تابعة له.
لكن البعض الآخر، كما نقلت الصحيفة، يرى أن الأمر مدروس بالكامل، وأن الخطاب العدواني قد يكون جزءًا من توزيع أدوار داخل القيادة الروسية، حيث لا يُترك بوتين ليبدو هو المتشدد الوحيد، بل يتم استخدام شخصيات مثل ميدفيديف للتصعيد الإعلامي دون التورط المباشر من رأس الدولة.
عداء بالجملة ومخاطبة بالرموز
لا تقتصر لغة ميدفيديف على التحريض فحسب، بل تتضمن سخرية مبطنة وشفرات ثقافية. ففي واحدة من منشوراته، وصف مائدة السياسة الدولية بأنها “غرفة طعام”، على طاولتها مقبلات من بروكسل، وسمك مقلي من لندن، وديك فرنسي، فيما كانت “الوجبة الرئيسية شنيتزل على الطريقة الكييفية”، في إشارة واضحة إلى عزلة أوكرانيا ورغبة روسيا في السيطرة عليها.
وفي منشورات أخرى، وصف المستشار الألماني بـ”النازي”، والرئيس الأوكراني بـ”المدمن”، وقادة أوروبا بـ”كلاب واشنطن”. حتى أمين عام الناتو لم يسلم من سخريته، إذ قال إنه “تناول الكثير من الفطر السحري” وإنه قد يحتاج تعلم الروسية من أجل “العمل في معسكر بسيبيريا”.

نهاية رمزية لعصر ميدفيديف الإصلاحي
في النهاية، يبدو أن ميدفيديف قد تخلى تمامًا عن الصورة التي رسمها لنفسه قبل أكثر من عقد: الرئيس الإصلاحي، صديق التكنولوجيا، حامل آيفون 4 من يد ستيف جوبز، عاشق موسيقى الروك الغربي. ومع أن بعض المقربين منه يرون أنه اضطر إلى ذلك من أجل البقاء في النظام، إلا أن تحوّله هذا يعكس كيف يتآكل التيار الليبرالي في روسيا أمام صعود خطاب الحرب، سواء كان حقيقيًا أم مصطنعًا.
إن صعود ميدفيديف كرمز للتهديد النووي الروسي يعكس ليس فقط تصدع العلاقات الدولية، بل أيضًا هشاشة الشخصيات التي يُفترض أنها جسدت الأمل ذات يوم. بين خطابات الكراهية ومنشورات السخرية، يتلاشى تدريجيًا ما تبقى من ميدفيديف رجل الدولة، ويصعد بدلًا عنه ميدفيديف “المؤثر الرقمي” في عالم ينهار فيه الفارق بين التصعيد السياسي والمسرح الهزلي.