صحف وتقارير

بعد نصرالله… فاينانشال تايمز تحذر من فراغ قاتل داخل حزب الله وانقسام لبناني محتمل

في صباح كئيب من أيام سبتمبر، استيقظ اللبنانيون على وقع خبر زلزل المشهد الداخلي والإقليمي: اغتيال حسن نصرالله، الأمين العام لحزب الله، بعملية جوية أعلنت إسرائيل مسؤوليتها عنها. الرجل الذي اعتاد اللبنانيون رؤيته عبر الشاشات، موجّهًا ومعبّرًا ومهدّدًا، غاب فجأة عن الساحة، مخلفًا فراغًا سياسيًا وأمنيًا عميقًا داخل أقوى تنظيم عسكري غير نظامي في الشرق الأوسط.

لم يكن نصرالله مجرد قائد، بل كان الصوت المركزي والوجه العقائدي والسياسي لحزب الله، والركيزة التي تربط بين القرار الإيراني والتنفيذ اللبناني، وبين الشارع الشيعي والدولة. ومع رحيله، فقد الحزب بوصلته الخطابية، وفقد لبنان أحد أعمدة توازنه الهش، في ظل وضع اقتصادي متدهور وفراغ رئاسي مستمر منذ عامين.

ووفق ما كشفه تقرير موسّع نشرته صحيفة فاينانشال تايمز في 30 سبتمبر 2024، فإن المشهد اللبناني دخل مرحلة جديدة من الغموض، حيث تتزايد المخاوف من اندلاع صراع داخلي، أو توسّع رقعة المواجهة مع إسرائيل جنوبًا، في ظل غياب شخصية قادرة على ملء موقع نصرالله بشموليته وتأثيره. فـ”حزب الله بلا صوت”، كما وصف التقرير، ولبنان بلا مركز ثقل، في لحظة حرجة تتطلب من الجميع أكثر من مجرد بيانات تهدئة.

حسن نصرالله: الزعيم الذي اختزل الحزب والدولة


على مدى أكثر من عقدين، لم يكن حسن نصرالله مجرد أمين عام لحزب الله، بل كان الشخصية الطاغية التي تجاوزت حدود الطائفة الشيعية وأثّرت في مجمل الحياة السياسية اللبنانية. حضوره الإعلامي وقدرته على التأثير الشعبي جعلاه لاعباً محورياً ليس فقط في لبنان، بل في الإقليم بأسره. وعند كل منعطف سياسي أو عسكري، كان اللبنانيون ينتظرون خطابه ليحدد المسارات. سواء كنت من مؤيديه أو معارضيه، لم يكن بالإمكان تجاهل أن نصرالله كان “صوت الحزب” و”وجه المقاومة” و”موازن الطوائف” في بلد تتقاطع فيه التوازنات الطائفية مع المحاور الإقليمية. اغتياله بهذا الشكل المفاجئ ترك فراغاً رهيباً، ليس داخل حزب الله فقط، بل داخل معادلة الحكم اللبنانية الهشة.

مقاتلو حزب الله في جنازة في يناير/كانون الثاني © حسين ملا/أسوشيتد برس

الضربة الإسرائيلية: غياب القيادة وصدمة القاعدة


نفّذت إسرائيل ما وصفته بـ”ضربة استراتيجية”، استهدفت مقر القيادة المركزية لحزب الله في ضاحية بيروت الجنوبية، وأسفرت عن مقتل نصرالله و20 قيادياً آخرين على الأقل. هذا الاستهداف كان نتيجة عملية استخباراتية معقّدة، تؤشر إلى اختراق إسرائيلي غير مسبوق داخل بنية الحزب. وقد تسببت العملية في انهيار وسائل الاتصال الداخلية لدى الحزب، ما جعل كبار المسؤولين السياسيين في لبنان يعجزون عن التواصل مع الحزب طوال أيام. الشلل القيادي الذي أصاب حزب الله أربك قاعدته الشعبية، خصوصاً بعد أن وجد أفرادها أنفسهم مشرّدين جراء القصف ومقطوعي التوجيه، بلا خطاب يجمعهم أو يوجّههم.

ردود الفعل الطائفية: بين الحزن والشماتة والانقسام


المفارقة الكبرى التي كشفتها ردود الفعل على اغتيال نصرالله تمثلت في الانقسام الحاد داخل المجتمع اللبناني. فبينما غرقت الضاحية الجنوبية في الحداد وارتفعت أصوات الغضب في أوساط الشيعة، عمّت مشاعر الشماتة والتشفي في مناطق مسيحية وسنية، بل وصل الأمر إلى رفض بعض المناطق استقبال النازحين من الضاحية. هذا الانقسام أعاد إلى الذاكرة مشاهد الحرب الأهلية، حين انقسمت العاصمة بين “غرب مسلم” و”شرق مسيحي”، وسط خطاب كراهية غير مسبوق. تصريحات مثل تلك التي أدلت بها سيدة من كسروان –”هذا ليس صراعنا ولن نؤوي من دمّر بلدنا”– تكشف عن عمق الشرخ الوطني، وتضع لبنان أمام خيارين: إما الانزلاق نحو المواجهة الأهلية، أو إعادة اكتشاف الذات الوطنية من تحت الرماد.

المعزون في موكب جنازة رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري عام 2005 © جمال سعيدي/رويترز

ارتباك داخل الحزب: مخاوف من التفكك أو التطرف


اغتيال نصرالله لم يكن ضربة رمزية فقط، بل أصاب رأس الهيكل التنظيمي للحزب الذي اشتهر بانضباطه وصرامته. فالرجل كان يوازن بين جناحي الحزب السياسي والعسكري، ويحكم قبضته على شبكة العلاقات مع إيران وسوريا. ومع غيابه، بدأت المخاوف من احتمال تفكك الحزب أو سيطرة تيارات أكثر تشدداً داخل صفوفه، خصوصاً أن بعض الكوادر قد ترى أن الرد العنيف هو السبيل الوحيد للحفاظ على هيبة الحزب. وفي ظل غياب قيادة ذات كاريزما مماثلة، يبرز هاشم صفي الدين كخليفة محتمل، لكنه يُعد أكثر تشدداً وأقرب إلى الحرس الثوري الإيراني، ما قد يعني تغييراً في إستراتيجية الحزب من الانضباط إلى الرد العشوائي أو المبالغة في العنف.

صورة توضيحية

مخاوف إقليمية: هل يشعل الفراغ حرباً جديدة؟


لا يمكن عزل تداعيات اغتيال نصرالله عن السياق الإقليمي، خصوصاً بعد اندلاع الحرب في غزة في أكتوبر 2023. فحزب الله دخل خط المواجهة ضد إسرائيل بتنسيق مع حماس، لكن دون أن يتورط بشكل كامل، حفاظاً على توازنات داخلية دقيقة. اغتيال نصرالله، بحسب محللين، قلب المعادلة وأضعف الجبهة الشمالية لإسرائيل، لكنه في الوقت نفسه منح تل أبيب هامش مناورة أكبر للضغط على لبنان. كما أن إيران، التي تعتبر حزب الله ذراعها الأهم في المنطقة، تجد نفسها في موقف ضعيف نتيجة تراجع دورها الإقليمي، وهو ما دفع إسرائيل، وفق بعض المحللين، إلى استغلال اللحظة لشل رأس الحربة.

كان حسن نصر الله مسيطرًا على السياسة اللبنانية لعقود من الزمن. © محمود زيات/وكالة الصحافة الفرنسية/صور جيتي

غياب الدولة: هشاشة لبنان في مواجهة العاصفة


المفارقة الأشد قسوة أن لبنان، في لحظة اغتيال نصرالله، كان أصلاً يعيش فراغاً رئاسياً منذ عامين، وحكومة تصريف أعمال عاجزة منذ الانتخابات الأخيرة. في ظل هذا الغياب شبه الكامل للدولة، برز حزب الله طوال السنوات الماضية كقوة بديلة تقدّم الخدمات وتحفظ الأمن في مناطق نفوذها. ومع اغتيال نصرالله، تلاشت حتى “الدولة الموازية”، تاركة اللبنانيين أمام الفراغ الكامل. الجيوش الطائفية بدأت تتهيأ لتوسيع نفوذها، ومناطق كاملة تعيش تحت رحمة المزاج الشعبي. وبحسب الباحثة ريم ممتاز من مركز كارنيغي، فإن لبنان بات اليوم مهدداً من الداخل بقدر ما هو مهدد من الخارج، ما لم تتحرك القوى الوطنية سريعاً لسد الفراغ.

نهاية رجل… وبداية مفترق تاريخي


رحيل حسن نصرالله لم يكن نهاية شخص فحسب، بل لحظة مفصلية في تاريخ لبنان والمنطقة. الرجل الذي بدأ مقاومته لإسرائيل وأخرجها من الجنوب عام 2000، ثم تورّط في الحرب السورية وتحوّل إلى قوة إقليمية، انتهى حياته في لحظة صدام خارج حساباته، نتيجة هجوم لم يكن هو صاحبه ولا قائده. ومن المفارقة أن من وصفته إسرائيل طويلاً بـ”العدو الأخطر”، أُسكت في عملية خاطفة لم تتطلب حرباً شاملة. الآن، لبنان يقف على حافة الهاوية: هل يعيد إنتاج التعايش الوطني؟ أم ينزلق إلى صراع أهلي جديد تُشعل شرارته دماء زعيمٍ كان، رغم كل الجدل، حجر أساس في معادلة الاستقرار النسبي؟


اغتيال حسن نصرالله ليس مجرد حدث أمني، بل زلزال سياسي وأخلاقي ضرب لبنان من أعماقه. لقد فقد حزب الله زعيمه، وفقدت البلاد أحد أبرز صانعي قرارها، بغض النظر عن تقييماتنا لسياساته. اليوم، لبنان في اختبار وجودي: هل سيجد في جراحه مدخلاً نحو وحدة وطنية جديدة؟ أم سيكون فراغ ما بعد نصرالله بداية الانهيار الشامل؟ الإجابة لا تزال معلقة، لكن ما هو مؤكد أن المرحلة المقبلة لن تشبه ما قبلها. على الجميع، من خصوم نصرالله قبل مؤيديه، أن يدركوا أن الزمن تغيّر، وأن الوقت قد حان لكتابة فصل جديد، أكثر حكمة… أو أكثر دماراً.

إقرأ ايضَا…

رسوم ترامب الجديدة تُشعل حربًا تجارية عالمية وتُنهي النظام التجاري القديم

محمود فرحان

محمود أمين فرحان، صحفي متخصص في الشؤون الدولية، لا سيما الملف الروسي الأوكراني. عمل في مؤسسات إعلامية محلية ودولية، وتولى إدارة محتوى في مواقع إخبارية مثل "أخباري24" والموقع الألماني "News Online"، وغيرهم, حيث قاد فرق التحرير وواكب التغيرات المتسارعة في المشهد الإعلامي العالمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى