صيف الوفرة البريه: كيف تذكرنا الطبيعه بأنها قادرة على التعافي إذا افسحنا لها المجال
صيف الوفرة البرية: لحظات من الأمل في ظل التحديات البيئية

في صيف 2025، شهدت بريطانيا موجة غير معتادة من الوفرة البيولوجية أثارت الدهشة في نفوس المتابعين والعاديين على حد سواء. أسراب الفراشات تملأ الهواء بخفة أجنحتها، وصيحات طيور السمامة تصدح في المدن بشكل لافت، والحقول تنبض بحياة جديدة من طيور الحمام والسناجب التي تقتحم حدائق الناس وتلتهم محاصيلهم المنزلية بشراهة. أشجار التفاح والخوخ تنحني تحت وطأة الثمار، وحيوانات النورس تعلن استقرارها فوق المصانع المهجورة. يبدو وكأن الطبيعة قد قررت أن تستعيد حضورها، ولو لفترة قصيرة، بعد سنوات من التقهقر والتراجع.
ما بين الأمل وخداع الانطباعات المؤقتة
لكن السؤال الأهم هنا ليس إن كان هناك وفرة، بل: هل نحن نشهد تعافيًا حقيقيًا أم مجرّد سراب طبيعي يثير لدينا وهم الانتعاش؟ في عالم يتقلص فيه التنوع البيولوجي باستمرار، قد يكون أدنى تحسن عرضي كافيًا لإقناعنا بعودة الحياة، لا لأن الواقع يؤكد ذلك، بل لأننا فقدنا القدرة على تمييز ما كان طبيعيًا يومًا. هذا ما يعرفه علماء البيئة بـ”متلازمة خط الأساس المتحول”، حين نعتاد تدريجيًا على الانخفاض حتى تصبح الفتات بمثابة إنجاز. وفي خضم هذا التضليل غير المقصود، تنشأ أوهام التعافي البيئي.
لماذا لا ينبغي السخرية من لحظات الأمل؟
ورغم ذلك، لا ينبغي الاستهانة بدفعة الأمل الموسمية. الأمل، في جوهره، جزء لا يتجزأ من علاقتنا بالطبيعة. مشهد طائر أسود العينين يحاول إطعام فراخه الثلاثة وسط ضغوط الصيف، أو أنباء عن طائر نادر مثل “هارير مونتاغو” يتمكن من التزاوج والإنجاب لأول مرة منذ ست سنوات، كفيل بأن يزرع ابتسامة في وجه أكثر القلوب خيبة. هذه المشاهد لا تملك وحدها القدرة على تغيير المعادلة البيئية، لكنها تعيد ربط الإنسان بالطبيعة التي فُصل عنها طويلًا.
شمس الطبيعة تعيد التوازن بعد عام كئيب
السبب الحقيقي وراء هذا الانفجار المفاجئ في الحياة البرية لا يعود لجهودنا كبشر، بل للطبيعة ذاتها. صيف 2024 كان من أسوأ المواسم في تاريخ المملكة المتحدة من حيث أشعة الشمس، تلاه ربيع استثنائي في 2025 كان الأكثر إشراقًا على الإطلاق. فترات الليل الخالية من الصقيع، مع دفء الشمس المستمر، خلقت بيئة مثالية لازدهار النباتات وتكاثر الحشرات والطيور. بعض الأنواع التي كانت على وشك الزوال، كفراشة الإمبراطور الأرجواني، وجدت في هذا المناخ فرصة لإعادة بناء أعدادها.
العودة المذهلة للحشرات والطيور
بالنظر إلى أن الحشرات تمتلك دورات حياة سريعة، فإنها تعد من أوائل المستجيبين لأي تحسن بيئي. ويؤكد العلماء أن أعداد الفراشات هذا العام، خصوصًا الأنواع النادرة مثل “فراشة الذيل السنونو” و”البنية العالية”، تشهد انتعاشًا كبيرًا. الأدلة الميدانية كذلك تُشير إلى موسم ناجح لمعظم الطيور المغردة، مع تسجيل مشاهدات استثنائية لطائر “الرفراف” الذي أصبح أكثر شيوعًا على ضفاف الأنهار، مما يدل على نقاء المياه ووفرة الأسماك الصغيرة، وهو مؤشر بيئي بالغ الأهمية.
موسم مثالي… ولكن بلا تأثير ملموس
ورغم هذه الوفرة، فإن الأرقام على الرسوم البيانية لا تزال قاسية وصامتة: درجات الحرارة ترتفع، ومستويات التنوع البيولوجي تواصل الانحدار. الطبيعة تُظهر لنا قدرتها على التعافي، لكن هذا التعافي لا يمكن أن يستمر من تلقاء ذاته. الانفراجة الحالية هي استثناء مؤقت، لا قاعدة جديدة. يجب ألا نخطئ بين ما هو ظرفي وما هو هيكلي. فالطبيعة، رغم مرونتها، لا تملك وحدها القدرة على مجابهة جشع الإنسان وتوسّعه المتزايد.
إرادة العودة… هل نملكها نحن كما تملكها الفراشات؟
اللافت أن الطبيعة مستعدة للعودة بكل قوتها إذا ما أتيحت لها الفرصة. هذا الصيف كشف عن استعداد النباتات والحيوانات للانبعاث من جديد، كما لو أن كل ما تحتاجه هو قليل من الهدوء والاحترام. ومع ذلك، يظل السؤال معلقًا: هل نحن مستعدون لتقديم تلك الفرصة؟ هل نحن، كبشر، نمتلك الإرادة لتغيير سلوكياتنا، كما تملك الكائنات الغريزية الإرادة للبقاء والتكاثر؟ يبدو أن الإجابة، رغم كل هذا الجمال، لا تزال غامضة ومقلقة.