المال المظلم يهدد مصداقية منظمة الصحة العالمية: صراع بين التمويل والاستقلالية

تواجه منظمة الصحة العالمية (WHO) أزمة ثقه متصاعدة مع انكشاف حجم اعتمادها المتزايد على ما يُعرف بـ”المال المظلم” من الشركات الكبرى، عبر ذراعها التمويلية “مؤسسة الصحة العالمية” التي تأسست عام 2020. فخلال ثلاث سنوات فقط، تلقت المؤسسة نحو 83 مليون دولار من تبرعات الشركات، في وقت تم إخفاء هوية المتبرعين وراء نحو 60% من هذه الأموال، ما أثار جدلًا واسعًا حول تضارب المصالح والتأثيرات الخفية على السياسات الصحية العالمية. هذه التطورات تأتي في لحظة دقيقة، إذ تواجه المنظمة أزمة تمويل خانقة بعد توقف الولايات المتحدة عن دعمها، وهو ما يضعها بين خيارين صعبين: الاستمرار في الاعتماد على المال المظلم، أو المجازفة بفقدان استقلاليتها أمام ضغوط القطاع الخاص.
أزمة التمويل وولادة “المال المظلم”
منذ انسحاب واشنطن من تمويل المنظمة، دخلت WHO في معركة مالية لتأمين مواردها، ما دفعها إلى فتح الباب أمام تبرعات الشركات عبر مؤسستها المستحدثة. لكن بدلاً من أن تكون هذه التبرعات دعامة للاستقلالية، تحولت إلى مصدر قلق دولي، مع تصاعد نسب “المساهمات المجهولة” التي بلغت 80% من التمويل في 2023 مقارنة بـ15% فقط في عام التأسيس.
ضبابية الأهداف وإشكالية الشفافية
الوثائق المالية للمنظمة تُظهر أن معظم التبرعات تُسجل تحت عناوين عامة مثل “كوفيد” أو “التكاليف التشغيلية”، وهي مصطلحات فضفاضة تسمح باستخدام الأموال في اتجاهات غير واضحة. هذا الغموض جعل خبراء الصحة العامة يحذرون من أن المنظمة قد تصبح أسيرة أولويات المتبرعين، لا أولويات الصحة العالمية.
نفوذ الشركات الكبرى على الصحة العامة
بينما تؤكد المنظمة أنها لا تقبل أموالًا من شركات السلاح أو التبغ، فإنها لم تستبعد قطاعات أخرى مثيرة للجدل مثل شركات الأدوية، الصناعات الغذائية، الكحول، أو حتى الوقود الأحفوري. خبراء الصحة يحذرون من أن هذه القطاعات غالبًا ما تستخدم التبرعات كوسيلة لتلميع صورتها أو التأثير على السياسات التنظيمية التي قد تضر بمصالحها.
أمثلة لافتة على التبرعات
البيانات المعلنة تكشف عن شركات مثل Sanofi، Novo Nordisk، Boehringer Ingelheim، إضافة إلى TikTok وMeta. بينما تقول المنظمة إن هذه الأموال تُوجه لبرامج الصحة النفسية أو مكافحة الأمراض، فإن منتقدين يشيرون إلى أن نفس الشركات متهمة بالمساهمة في أزمات صحية مرتبطة بمنتجاتها أو أنشطتها التجارية.
تضارب المصالح: بين الداعم والخصم
الانتقادات اشتدت خصوصًا تجاه Meta، التي تمول قسم الاتصالات الرقمية في WHO في وقت يواجه فيه فيسبوك انتقادات حادة بشأن تأثيراته على الصحة النفسية للأطفال. هذه المفارقة تطرح سؤالًا جوهريًا: كيف يمكن للمنظمة أن تنتقد أو تنظم ممارسات شركات تساهم في تمويلها؟
دفاع المنظمة وتبريرات المانحين
المدير التنفيذي لمؤسسة الصحة العالمية، أنيل سوني – وهو مسؤول سابق في قطاع الأدوية – دافع عن التبرعات المجهولة معتبرًا أنها وسيلة لحماية الشركات من “الاستهداف”. كما أكدت المنظمة أن نسبة هذه الأموال لا تمثل سوى 1% من ميزانيتها السنوية. لكن باحثين مثل نِك فريدنبرغ من جامعة نيويورك يشيرون إلى أن الخطر لا يكمن في النسبة بل في التأثير الرمزي على الثقة العامة.
أبعاد سياسية واقتصادية أوسع
الاعتماد على المال المظلم لا يقتصر على منظمة الصحة العالمية، بل يعكس اتجاهًا متناميًا في وكالات الأمم المتحدة نحو الشراكة مع القطاع الخاص لسد فجوات التمويل. غير أن هذه الشراكات غالبًا ما تضع المسؤولين الدوليين أمام تناقض صعب: حماية المصلحة العامة أو الاستجابة لمصالح الشركات التي توفر الأموال.
المخاطر على المستقبل الصحي العالمي
أخطر ما يواجه WHO اليوم ليس فقط فقدان الأموال الحكومية، بل خسارة ثقة الرأي العام العالمي. فالمنظمة التي تقود المعارك ضد الجوائح وتضع معايير السلامة الصحية، تعتمد على مصداقيتها كأصل استراتيجي. وإذا تآكلت هذه الثقة بسبب الغموض المالي، فإن قدرتها على إدارة الأزمات المقبلة – من الأوبئة إلى التغير المناخي – ستكون موضع شك كبير.