لتجنّب الاعتقال.. رحلة بوتين الطويلة إلى المجر للقاء ترامب

رغم أن الرحلة الجوية بين موسكو وبودابست لا تتجاوز ساعتين ونصف، فإن الطريق إلى القمة المرتقبة بين الرئيسين فلاديمير بوتين و الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يبدو أطول وأكثر تعقيدًا من أي مسار جوي. فمذكرة التوقيف الدولية الصادرة بحق الرئيس الروسي منذ عامين جعلت كل تحرّك له أشبه بمناورة محسوبة بالدقيقة. وبحسب صحيفة تايمز البريطانية، تخطط موسكو لرحلة مليئة بالالتفافات الجوية لتفادي أي مجال يمكن أن يعرض طائرته للاعتقال أو الاعتراض. غير أن هذه الزيارة، التي يصفها مراقبون بأنها “قمة الرموز”، تمثل في الوقت نفسه مأزقًا دبلوماسيًا للاتحاد الأوروبي، وفرصة للكرملين ليؤكد أن رئيسه لا يزال قادرًا على اختراق العزلة الغربية التي فُرضت عليه منذ اندلاع الحرب الأوكرانية عام 2022.
مأزق دبلوماسي أوروبي
تسببت زيارة بوتين المرتقبة إلى المجر في انقسام داخل الاتحاد الأوروبي، إذ تواجه بروكسل معضلة بين احترام القانون الدولي والحفاظ على التوازن السياسي. فدولة عضو في الاتحاد، مثل المجر، تستعد لاستقبال رئيس متهم بارتكاب جرائم حرب، في حين أن جميع دول الاتحاد ملزمة قانونيًا باعتقاله إذا دخل أراضيها أو مجالها الجوي. ورغم الحظر المفروض على الطيران الروسي منذ بدء الحرب، كشفت تسريبات دبلوماسية أن الاتحاد يدرس استثناءً لطائرة بوتين الرئاسية لتجنّب أزمة غير مسبوقة. غير أن هذا “الاستثناء المؤقت” أثار جدلًا واسعًا، إذ يعتبره البعض تناقضًا صارخًا مع مبادئ العدالة الدولية التي طالما نادت بها أوروبا، فيما تراه موسكو دليلًا على أن الدبلوماسية يمكن أن تسبق القضاء عندما تتقاطع المصالح.
حسابات الطيران فوق أوروبا
في موسكو، يعمل فريق من كبار الطيارين والخبراء العسكريين على تصميم “الطريق الآمن” لعبور بوتين إلى المجر، بعيدًا عن أي احتمال لتطبيق مذكرة التوقيف. ورغم أن المسار الأقصر يمر عبر بيلاروسيا وبولندا، فإن هذا الخيار مرفوض، نظرًا لتوتر العلاقات بين موسكو ووارسو التي تتهم روسيا بخرق مجالها الجوي بطائرات مسيّرة، وتخشى هجومًا جديدًا. كما أن التحليق فوق دول البلطيق غير وارد، بعد أن أعلن وزير الخارجية الليتواني كيستوتيس بودريس رفض بلاده عبور طائرة بوتين مجالها الجوي. ويبدو أن الكرملين مصمم على تجنّب أي مخاطرة، حتى لو تطلّب ذلك ساعات إضافية في الجو وتنسيقًا مع حلفاء محدودين، لأن أي حادث دبلوماسي أثناء الرحلة قد يتحول إلى أزمة دولية واسعة النطاق.
التفاف عبر البلقان والبحر
ترجّح التقديرات الغربية أن تسلك طائرة “إليوشن II-96” الرئاسية الروسية مسارًا طويلاً نحو الجنوب، مرورًا بالأجواء التركية ثم الصربية، قبل أن تعبر فوق دول البلقان غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وتُعد تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي “الناتو” والحليف البراغماتي لموسكو، نقطة العبور الأكثر أمانًا، نظرًا لتوازنها بين الغرب وروسيا. وقد يضطر المسار إلى التوغّل جزئيًا فوق أجواء بلغاريا أو اليونان، في نطاق يسيطر عليه الناتو، لتأمين الوصول إلى بودابست دون توقف. هذا السيناريو ليس جديدًا، فقد سبقه وزير الخارجية سيرغي لافروف العام الماضي عندما اضطر إلى الالتفاف ثلاث ساعات إضافية لتجنّب أجواء الاتحاد الأوروبي في طريقه إلى مالطا، في مشهد يعكس كيف باتت الجغرافيا الأوروبية تتحكم حتى في قرارات السفر السياسية لموسكو.
أوربان.. الحليف الأوروبي المتمرّد
يرى رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان في استضافة بوتين فرصة لتأكيد استقلال بودابست عن الخط الأوروبي السائد. فالرجل الذي يعدّ أكثر زعماء الاتحاد قربًا من موسكو وترامب، يجد في القمة وسيلة لترسيخ صورته كقائد لا يخضع لإملاءات بروكسل. وقد ألمح أوربان إلى إمكانية انسحاب المجر من عضوية المحكمة الجنائية الدولية، بعد الجدل الذي أثارته مذكرة التوقيف ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مما يمنح بوتين ممرًا قانونيًا مؤقتًا. وأكد وزير الخارجية بيتر سيارتو أن بلاده “ستضمن دخول الرئيس الروسي وإجراء مفاوضات ناجحة ثم عودته بسلام”، في موقف يعزز الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي حول حدود الواقعية السياسية حين تتعارض مع مبادئ العدالة.

ما وراء القمة
في نهاية المطاف، لا تبدو قمة بودابست مجرد اجتماع بين زعيمين، بل اختبارًا حقيقيًا لمكانة القانون الدولي أمام موازين القوى. فبوتين، المتهم من المحكمة الجنائية الدولية، يحلّق فوق أراضٍ يُفترض أن تعتقله، ليجتمع برئيس أمريكى يتحدّى المؤسسات الغربية نفسها. وبينما تأمل موسكو أن تمنحها القمة شرعية دبلوماسية جديدة، يرى الغرب فيها لحظة كاشفة: إذ لم يعد النظام الدولي قادرًا على فرض قواعده على من يمتلك القوة والجرأة على خرقها. وبينما تترقب العواصم الأوروبية تفاصيل “رحلة بوتين الطويلة”، يبقى السؤال مطروحًا: من سيكسب الجولة هذه المرة — الطائرة الروسية أم العدالة الدولية؟



