الاقتصاد

الاقتصاد في ساحة المعركة: لماذا تحسم الحوافز الحرب أكثر من الشجاعة؟

هل الحروب محض جنون بشري أم نتيجة منطق اقتصادي بارد؟ في كتابه الجديد “الدم والكنز” (Blood and Treasure)، يطرح الصحفي والخبير الاقتصادي دنكان ويلدون رؤية جريئة: لنتوقف عن تمجيد الشجاعة أو شيطنة العنف وحده، ولنسأل: من المستفيد؟ من الذي وُضع أمامه الحافز للمضي في الحرب، أو تفاديها؟ يقدم الكتاب، الصادر حديثًا، رؤية مدهشة لعلاقة الاقتصاد بالحرب، ممتدة من مرتزقة إيطاليا في العصور الوسطى إلى بوتين في أوكرانيا، مرورًا بالقراصنة والمغول والفايكنغ.

فبدلاً من النظر إلى الحرب بوصفها شذوذًا عن المنطق، يراها ويلدون كمحصلة حسابات معقدة، حيث تلعب الحوافز الاقتصادية دور البطولة، متوارية خلف شعارات البطولة والمجد. وهذا ما يكشفه عبر مزيج من الحكايات التاريخية والتحليل الاقتصادي، في سرد غني بالتفاصيل والمفارقات.

المرتزقة الإيطاليون: الحروب التي لم تُخض

في القرن الخامس عشر، كانت المدن الإيطالية الكبرى تستأجر مرتزقة (الكوندوتييري) لخوض حروبها. ورغم ما كانوا يزعمونه من استراتيجيات معقدة مبنية على التاريخ الروماني، فإن الحقيقة أن الطرفين كانا يفضلان تجنب القتال، لماذا؟ لأن الأجر يُدفع سواء قاتلوا أم لا. وهكذا، أصبحت الحرب لعبة استنزاف بلا معركة، يعود فيها المرتزقة إلى بيوتهم بأموال طائلة، ينفقونها على أعمال فنية عظيمة ساهمت في ازدهار عصر النهضة!

سر رفض فرنسا للقوس الطويل: حماية الداخل أولى من نصر الخارج

رغم أن الرماة الإنجليز ألحقوا بالفرنسيين هزيمة نكراء في معركة أجينكور عام 1415، لم تسعَ فرنسا لتبني سلاح القوس الطويل، على عكس ما قد توحي به البداهة العسكرية. السبب؟ لم يكن تقنيًا بل سياسيًا: ملوك فرنسا خافوا من تسليح الفلاحين بسلاح قاتل رخيص قد يُستخدم لاحقًا ضدهم. بينما في إنجلترا، حيث كانت السلطة أكثر استقرارًا، شجع الملوك تدريبات الرماية الأسبوعية، لضمان جاهزية جيش من الرماة في حال اندلاع حرب.

قراصنة الكاريبي: راية الجمجمة كعلامة تجارية

بعيدًا عن الصورة الهوليودية، سعى القراصنة الحقيقيون في القرن الثامن عشر لتجنب القتال. القتال قد يُغرق السفينة المستهدفة ويضيع الغنيمة. لذا، رفعوا “علم الجمجمة والعظمتين” كعلامة رعب واضحة: من يستسلم ينجو، ومن يقاوم يُباد. وهكذا ابتكر القراصنة نظامًا فعالًا لبث الرعب وتجنب العنف… وحققوا أرباحًا هائلة.

الفايكنغ والمغول: السر في الأدوات، لا الأساطير

لم يكن الفايكنغ مجرد برابرة عراة يهاجمون بجنون، بل كان لديهم ميزة لوجستية عظيمة: مراكبهم الطويلة التي تتحرك بهدوء وسرعة، وتمنحهم عنصر المفاجأة. كذلك لم يكن المغول مجرد رماة خيالة مهرة، بل كانوا مدعومين بأسطول خيول ضخم – نحو 20 حصانًا لكل مقاتل – ما سمح لهم بالتحرك بسرعة لا تُضاهى عبر آسيا، وتوسيع نطاق إمبراطوريتهم بشكل غير مسبوق.

البحرية البريطانية: عندما يصبح الطمع دافعًا للانتصار

في حروب نابليون، حققت البحرية البريطانية نتائج مذهلة، لم تكن مدفوعة فقط بالتدريب أو الانضباط، بل بالحوافز المالية. القباطنة البريطانيون حصلوا على نسبة من قيمة السفن التي غنموها، بينما كان القبطان الفرنسي يواجه خطر الإعدام إن خسر. لذا، تجنب الفرنسيون القتال، بينما اندفع البريطانيون نحوه بشجاعة يغذيها الطمع.

فيتنام: عندما تفشل الحسابات الاقتصادية في فهم العدو

أخطأ الاقتصادي الأمريكي الشهير والت روستو حين افترض أن قصف فيتنام الشمالية سيدفعها للاستسلام. لكنه تجاهل حوافز القادة هناك: بالنسبة لهو تشي منه، كان توحيد البلاد هدفًا أعلى من أي خسائر مادية. وكلما زاد القصف الأمريكي، زاد الدعم السوفيتي والصيني له. وهكذا فشلت آلة الحرب الأمريكية في كسر إرادة الخصم.

الحرب كأداة بيد الطغاة: من بوتين إلى بورقيبة

يختم ويلدون كتابه بتحليل دوافع شخصية تقف خلف قرارات كبرى. فلاديمير بوتين، على سبيل المثال، لم يهاجم أوكرانيا بناءً على مصلحة روسية عقلانية – الحرب كلّفت بلاده أكثر من مليون قتيل وأدخلتها في عزلة – بل بدافع المجد الشخصي وتعزيز السيطرة الداخلية. الحرب هنا ليست عقلانية، لكنها منطقية بالنسبة لطاغية يخشى السقوط.

هل يخبرنا الاقتصاد بمستقبل الحرب؟

ربما لا يقدم الاقتصاد حلاً سحريًا لوقف الحروب، لكنه أداة ثمينة لفهم أسبابها الحقيقية، بعيدًا عن الدعاية والخرافة. كما يلمح ويلدون، فإن وفرة القادة السيئين ستبقي نار الحروب مشتعلة، ما لم نفهم أن من يضغط الزناد غالبًا لا يفعل ذلك من أجل الوطن، بل من أجل ذاته.

أقرا أيضا

الاقتصاد في ساحة المعركة: لماذا تحسم الحوافز الحرب أكثر من الشجاعة؟

نوران الرجال

نوران الرجال باحثة اقتصادية وكاتبة صحفية متخصصة في شؤون النقل البحري والاقتصاد البحري، وتشغل عضوية لجنة النقل البحري بالجمعية العمومية العلمية للنقل. كما تتولى منصب المدير العام لمركز العربي للأبحاث البحرية والاستراتيجية، حيث تسهم في صياغة الرؤى وتقديم الدراسات الداعمة لتطوير قطاع النقل البحري في المنطقة العربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى