عربي وعالمي

حكومة ستارمر عند مفترق طرق:اليسار الغائب واليمين غير المقنع

حكومة العمال في بريطانيا: هل تستطيع كسب ثقة الناخبين؟"

بعد أقل من عام على توليه الحكم، يجد كير ستارمر نفسه في مأزق سياسي مألوف لأي زعيم بريطاني يقود حزب العمال في السلطة: خيارات محدودة، ضغط شعبي متزايد، وانقسام داخلي ينذر بالخطر. الحكومة التي أتت بعد سنوات من حكم محافظ فوضوي، لم تنجح بعد في توضيح رؤيتها للمواطن البريطاني. وبالتزامن مع طرح مراجعة الإنفاق العامة – التي تأجلت مراراً – واقتراب التصويت على خفض إعانات الرعاية الاجتماعية، يبدو أن الحزب الحاكم فقد بوصلته السياسية، وأصبح عالقاً بين يمين حذر ويسار خجول. وفي ظل استطلاعات رأي تُظهر تراجع شعبية العمال إلى مستويات ما قبل كوربين، بل وتفوق حزب “ريفرم يو كي” بقيادة نايجل فاراج عليه، يبدو أن حكومة ستارمر تُدفع الآن نحو لحظة حسم لا مفر منها: إما الانحياز الصريح إلى اليسار بمشاريع جذرية واضحة، أو المضي أبعد في الطريق المحافظ، على أمل تجميع تحالف انتخابي من الخائفين من الفوضى… لكن بثمن فقدان الثقة والأصوات معًا.

 شعبية تتآكل رغم الجهد التنفيذي

رغم نشاط الحكومة مقارنة بسابقتها، إلا أن عجزها عن تقديم خطاب سياسي مُقنع جعل إنجازاتها تبدو باهتة. حتى النجاحات النسبية، مثل الاتفاقيات التجارية، لم تُترجم إلى دعم جماهيري أو زخم سياسي، ما يعكس أزمة في القدرة على التسويق السياسي، لا في الأداء الإداري فقط.

 استراتيجية متهالكة وخيارات مستهلكة

النهج الذي قاده ستارمر ومعاونوه، خاصة المستشار ريتشل ريفز ورئيس الأركان مورغان ماكسويني، اعتمد على الحذر المالي، والاجتماعي المحافظ، ومغازلة فئة “الناخبين العاملين” والمسنين من الطبقة الوسطى. هذا الخيار أثبت فشله بعد خمس سنوات، حتى في أعين من روّجوا له باعتباره “الطريق الواقعي” للسلطة.

 بديل يساري يتشكل في الظل

داخل الحزب، بدأت تتبلور مطالب بوضوح يساري أكبر، تقوده شخصيات مثل أنجيلا راينر وآندي بورنهام، وتتمثل في رفع الضرائب على الأغنياء، وبناء مساكن اجتماعية، وإلغاء خصخصة المرافق المتعثرة. حتى بعض أنصار “العمال الأزرق” المحافظين باتوا يرون في هذه الطروحات فرصة حقيقية للتمايز عن خطاب اليمين الجديد.

اليسار في المعارضة… واليمين في الحكم؟

تاريخياً، أظهرت حكومات العمال ميلاً إلى الحذر في السلطة، حتى عندما كانت تتلقى دعوات شعبية واضحة للتحول نحو اليسار. من فيليب سنودن في ثلاثينيات القرن الماضي إلى جيم كالاهان في السبعينيات، لطالما اختارت الحكومات العمالية شد الحزام عوضاً عن التوسع الاجتماعي، وفي كل مرة انتهت تلك الخيارات بالهزيمة الانتخابية.

إغراء اليمين لا يزال قائماً

ورغم فشل اليمين في إنقاذ الحكومات السابقة، يبدو أن بعض الوسط العمالي لا يزال يراهن على كسب الطبقة المترددة بالمزيد من التنازلات لقطاع الأعمال وتشديد سياسات الهجرة. يظنون أن هذا كفيل بتجميع أصوات كافية في ظل التشظي السياسي الحالي، دون النظر إلى التكلفة طويلة المدى على هوية الحزب.

 تحولات الرأي العام: الناخبون ليسوا كما يظن ستارمر

بعكس ما تفترضه قيادات العمال، تشير الدراسات والمزاج الشعبي إلى انزياح واضح نحو دعم السياسات التقدمية: تأييد لتأميم المرافق العامة، معارضة لتفاوت الثروات، وتزايد في شعبية النقابات العمالية. هذه ليست بريطانيا التي واجهها الحزب في ثلاثينيات أو سبعينيات القرن الماضي.

اليسار الخارجي يزدهر مع خفوت “الداخلي”

القمع التنظيمي لجناح اليسار داخل العمال ساهم في صعود بدائل جديدة مثل حزب الخضر، وانتخاب نواب مستقلين ذوي توجهات يسارية، ما أدى إلى تسرب قاعدة الدعم التقليدية للحزب. استمرار هذا النزيف قد يعني بروز حزب يساري جديد، يعيد تشكيل الخريطة السياسية البريطانية.

 نصف يسار لا يصنع التغيير

رغم بعض المبادرات الإيجابية – مثل تحسين حقوق العمال، وتأميم السكك الحديدية، والحد من امتيازات المدارس الخاصة – تفتقر الحكومة إلى الجرأة لتقديم هذه السياسات كجزء من رؤية يسارية شاملة. وفي الانتخابات المقبلة، لن يهتم الناخب كثيرًا بالمسار الذي اختاره ستارمر، بقدر ما سيهتم إن كان لديه الثقة لشرحه والدفاع عنه. السياسة، في جوهرها، هي فعل إقناع… وحكومة ستارمر حتى اللحظة تبدو وكأنها غير مقتنعة حتى بنفسها.

عزة طارق

صحفية تحت التدريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى