الاقتصاد

أربع دروس خالدة من التاريخ المالي.. استثمار المستقبل يبدأ من فهم الماضي

في عالم يتغير بوتيرة غير مسبوقة، تظل دروس التاريخ المالي مرجعًا أساسيًا للمستثمرين الذين يسعون إلى بناء ثروة مستقرة تدوم عبر الأجيال. تقرير جديد صادر عن معهد أبحاث دويتشه بنك بعنوان «العائدات طويلة الأجل للأصول»، ونقلته وكالة بلومبيرج، يعيد قراءة بيانات تمتد لأكثر من 200 عام في 56 سوقًا عالميًا، ليكشف عن أربع حقائق رئيسية تُشكل جوهر الاستثمار الناجح. التقرير يؤكد أن فهم سلوك الأصول عبر التاريخ لا يقتصر على التحليل الأكاديمي، بل يمثل أداة عملية لتقدير المخاطر وصياغة قرارات مالية أكثر وعيًا. ومع تصاعد التقلبات الاقتصادية وارتفاع معدلات التضخم وأسعار الفائدة، تبدو العودة إلى دروس الماضي ضرورة لا غنى عنها لفهم ما ينتظر الأسواق مستقبلًا وبناء استراتيجيات استثمارية أكثر استدامة وتوازنًا.

 

التقييم المنخفض.. طريقك إلى عوائد مرتفعة

 

يُظهر التقرير أن التقييمات المنخفضة للأسهم والسندات تمثل المدخل الحقيقي لتحقيق عوائد قوية ومستدامة. فمنذ سبعين عامًا، حققت المحافظ التي تستثمر في الأسهم منخفضة مضاعف الربحية (P/E) متوسط عائد سنوي يبلغ 20.2٪، مقابل 11.4٪ فقط للأسهم ذات التقييم المرتفع. أما السندات، فقد سجلت أفضل عوائدها عندما كانت أسعار الفائدة الأساسية تتجاوز 4٪ وتتجه للصعود، وهي الفترات التي تُعتبر فيها “رخيصة نسبيًا”. هذه النتائج تُبرز أن المستثمرين الذين يركزون على القيمة الحقيقية للأصول بدلاً من الضجيج السوقي هم من يحصدون المكاسب الكبرى. فالتقييم المنخفض ليس مجرد رقم، بل هو انعكاس لفرصة كامنة في انتظار من يعرف كيف يلتقطها.

 

النقود ليست استثمارًا طويل الأجل

 

يشير التقرير إلى أن الاحتفاظ بالنقد لفترات طويلة يعد أحد أكثر الأخطاء شيوعًا بين المستثمرين، إذ فقدت النقود قيمتها الحقيقية بمعدل 2٪ سنويًا خلال القرنين الماضيين. أما أذون الخزانة، التي تُعد أقرب بديل نقدي بعائد، فلم تحقق سوى 1.9٪ سنويًا بعد احتساب التضخم. في المقابل، تفوقت الأسهم بعائد 4.9٪ والسندات الحكومية بـ 2.6٪. الأهم أن الولايات المتحدة لم تشهد أي فترة تمتد 25 عامًا تفوقت فيها النقود على الأسهم. هذه الحقائق تؤكد أن النقد ليس وسيلة لبناء الثروة، بل أداة للحفاظ على السيولة والطوارئ فقط، فيما تظل الأسواق الإنتاجية هي الساحة الحقيقية للنمو المالي المتراكم.

 

الأسهم تتحدى التضخم وتحوله إلى فرصة

 

أثبتت البيانات التاريخية أن الأسهم تمثل خط الدفاع الأول ضد التضخم، لأنها تعبّر عن ملكية في شركات قادرة على تمرير ارتفاع الأسعار إلى المستهلكين. حتى في فترات تضخم تصل إلى 9٪ سنويًا، حافظت الأسهم على أدائها القوي، ولم تتراجع عوائدها إلا عندما تجاوز التضخم هذا الحد. ويرى التقرير أن البيئة التضخمية المعتدلة غالبًا ما تدعم نمو الأرباح وتزيد من قيمة الشركات المدرجة في البورصات. وهنا يظهر جوهر الدرس الثالث: التضخم لا يعني نهاية المكاسب، بل يمكن أن يكون دافعًا إضافيًا لزيادة العائد، شرط أن تُختار الشركات القادرة على التكيف السعري وإدارة تكاليفها بذكاء.

 

الذهب.. حارس القيمة لا صانع الثروة

 

رغم سمعته التاريخية كملاذ آمن، إلا أن الذهب لم يكن أبدًا أداة مثالية لتحقيق نمو مستدام. فبينما بلغ متوسط عائده الحقيقي 0.4٪ فقط على مدار 200 عام، قفز إلى 4.75٪ سنويًا بعد تحرير سعره عام 1971، ثم إلى 7.4٪ منذ عام 1999، متفوقًا على الأسهم الأمريكية خلال هذه الفترة. ومع ذلك، يرى التقرير أن أداء الذهب القوي في العقود الأخيرة قد بلغ ذروته، وأن العوائد المستقبلية مرشحة للتباطؤ. فالذهب يحتفظ بالقيمة لكنه لا يخلقها، مما يجعله أشبه بـ “مخزن أمان” لا “محرك ثروة”. فبينما يضمن الحماية من تقلبات الأسواق، يظل دوره تكميليًا ضمن محفظة متنوعة وليست أساسية لتحقيق النمو.

 

قراءة في جوهر الدروس

 

تتلاقى الدروس الأربع التي أبرزها التقرير عند حقيقة واحدة: الاستثمار الناجح هو مزيج من الصبر، والمعرفة، والتقييم الذكي. فالأموال لا تنمو بالصدفة، بل من خلال اختيار الأصول بعناية وتنويعها في التوقيت المناسب. إن التقييم المنخفض هو بوابة العوائد المرتفعة، والنقد وسيلة أمان لا وسيلة بناء، والتضخم لا يهدد الأسهم بقدر ما يختبر قوتها، بينما الذهب يحافظ على القيمة لكنه لا يصنع ثروة. وفي عالم يموج بالتقلبات، يبقى الفهم العميق لتاريخ الأسواق هو البوصلة التي تهدي المستثمرين نحو قرارات مالية رصينة تبني مستقبلًا آمنًا ومستدامًا.

اقرأ أيضاً

الذهب يفقد بريقه.. أكبر موجة بيع تهز الأسواق منذ 2020

رحمة حسين

رحمة حسين صحفية ومترجمة لغة فرنسية، تخرجت في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية وآدابها بجامعة عين شمس. تعمل في مجال الصحافة الثقافية والاجتماعية، إلى جانب عملها في الترجمة من الفرنسية إلى العربية. تهتم بقضايا حقوق الإنسان وحقوق المرأة، ولها كتابات مؤثرة في هذا المجال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى