عرب وعالم

دارفور في قبضة الميليشيات.. السودان على حافة الانقسام من جديد

دخلت الحرب الدامية التي تمزق السودان منذ أكثر من عامين مرحلة جديدة وخطيرة، بعدما أحكمت قوات الدعم السريع سيطرتها الكاملة على إقليم دارفور، عقب طرد الجيش السوداني من آخر معاقله هناك. وبحسب تقديرات أممية، تجاوز عدد القتلى أربعين ألف شخص، فيما يعيش أكثر من أربعة عشر مليون نازح في ظروف إنسانية قاسية، تجعل من الأزمة السودانية الأكبر في العالم حاليًا. السيطرة على مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، لم تكن حدثًا عسكريًا فحسب، بل تحوّلت إلى مؤشر سياسي يهدد بإعادة رسم خريطة البلاد بعد نحو خمسة عشر عامًا من انفصال الجنوب، ما يعيد إلى الأذهان شبح التقسيم الذي ظنّ السودانيون أنهم تجاوزوه إلى الأبد.

 

حمدتي.. من راعي إبل إلى رجل يهدد وحدة السودان

 

يقود قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، المعروف باسم “حمدتي”، وهو زعيم قبلي من دارفور صعد من تجارة الإبل إلى قمة السلطة العسكرية في السودان. نشأت قواته من رحم ميليشيات “الجنجويد” التي ارتُكبت باسمها فظائع ضد المدنيين خلال حرب دارفور مطلع الألفية، قبل أن يعيد الرئيس المخلوع عمر البشير تنظيمها عام 2013 تحت مسمى “قوات الدعم السريع”. وبفضل الدعم السياسي والعسكري الذي حظي به، وسّع حمدتي نفوذه مستفيدًا من ثروات الذهب وتحالفاته الإقليمية، ليصبح خلال عقد واحد أحد أكثر الشخصيات تأثيرًا في البلاد، بل والرجل الذي يقرر مصيرها اليوم بين الوحدة أو الانقسام.

 

سجل دموي وعقوبات دولية

 

رغم محاولاته تلميع صورته كقائد وطني يسعى للاستقرار، يلاحق سجل حمدتي وقواته تهم ثقيلة تتعلق بجرائم حرب وانتهاكات واسعة ضد المدنيين في دارفور ومناطق أخرى. فقد اتهمته منظمات حقوقية بارتكاب عمليات قتل جماعي واغتصاب ونهب، فيما فرضت واشنطن عقوبات على حمدتي وعدد من أفراد أسرته وشركاته بسبب تورطهم في جرائم تطهير عرقي. ومع تصاعد نفوذه الاقتصادي عبر تجارة الذهب، أصبحت موارده تمثل العمود الفقري لتمويل الحرب، ما يمنحه قدرة على الصمود أطول من خصومه. ويخشى مراقبون أن يرسخ ذلك نموذجًا خطيرًا لميليشيا تتحكم في مقدرات دولة غنية بالثروات لكنها فقيرة بالاستقرار.

 

تحالفات إقليمية تزيد المشهد تعقيدًا

 

تتهم الخرطوم دولًا إقليمية، وعلى رأسها الإمارات وليبيا، بتقديم دعم لوجستي وتسليحي لقوات حمدتي، في حين تنفي أبوظبي تلك الاتهامات وتصفها بأنها محاولات لتسييس الأزمة. وتشير تقارير استخباراتية إلى تلقي قوات الدعم السريع أسلحة من جهات خارجية، بينها روسيا وتركيا وإيران، ما زاد من تعقيد الحرب التي تجاوزت طابعها المحلي إلى صراع إقليمي متعدد المصالح. كما أرسل حمدتي سابقًا مقاتلين للقتال في اليمن وليبيا ضمن تحالفات إقليمية أكسبته علاقات ونفوذًا واسعًا. وبات الصراع السوداني اليوم مرآة لتنافس القوى الإقليمية على الثروات والممرات الاستراتيجية، فيما يدفع المدنيون الثمن الأكبر من دمائهم ومعاناتهم اليومية.

 

السودان على مفترق طرق

 

بين جيش يتمسك بشرعية الدولة وميليشيا تسعى إلى تثبيت حكمها بقوة السلاح، يقف السودان على حافة الانقسام الكامل. الصراع بين عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو تجاوز حدود السلطة، ليصبح صراعًا وجوديًا حول من يملك الحق في حكم البلاد. الخرطوم، التي كانت يوماً رمزًا للسيادة الوطنية، أصبحت ساحة خراب، بينما يتفشى الجوع وتنهار الخدمات الأساسية في معظم المناطق. ومع غياب أي أفق سياسي أو مبادرات جادة للتهدئة، يخشى المراقبون أن ينتهي الصراع بولادة كيانين متنازعين، أحدهما يهيمن عليه الجيش والآخر تحكمه الميليشيات، ما يعيد تجربة انفصال الجنوب ويؤكد أن شبح التقسيم لم يغادر السودان قط.

 

صراع تتقاطع فيه المصالح الدولية

 

يؤكد محللون أن الأزمة السودانية لم تعد صراعًا داخليًا بحتًا، بل باتت ساحة تتقاطع فيها مصالح قوى إقليمية ودولية تسعى لترسيخ نفوذها في البحر الأحمر ومنطقة الساحل الإفريقي. فالإمارات وروسيا تبحثان عن موطئ قدم يضمن لهما السيطرة على طرق التجارة ومصادر الطاقة، بينما تخشى مصر وإثيوبيا من تداعيات أمنية تهدد استقرارهما الحدودي. في المقابل، تتعامل واشنطن والاتحاد الأوروبي بحذر خشية فراغ سياسي تستفيد منه قوى منافسة. ومع انسداد الأفق الدبلوماسي واستمرار العنف، يخشى المراقبون أن يتحول السودان إلى بؤرة صراع بالوكالة، تتداخل فيها أطماع الذهب والنفوذ، في حين يظل الشعب السوداني الخاسر الأكبر بين مطرقة الميليشيات وسندان التدخلات الخارجية.

اقرأ أيضاً

حرب بلا رصاص.. الصين تتسلح بالذكاء الاصطناعي لتحدي أمريكا 

رحمة حسين

رحمة حسين صحفية ومترجمة لغة فرنسية، تخرجت في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية وآدابها بجامعة عين شمس. تعمل في مجال الصحافة الثقافية والاجتماعية، إلى جانب عملها في الترجمة من الفرنسية إلى العربية. تهتم بقضايا حقوق الإنسان وحقوق المرأة، ولها كتابات مؤثرة في هذا المجال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى