رواد الميكروبات البحرية يرسمون خريطة رقمية لعلاج أمراض المستقبل
علماء يجمعون الحمض النووي من أعماق البحار لتطوير أدوية مبرمجة بالتقنيات الجينية والذكاء الاصطناعي.

في عالم يعتقد كثيرون أن كل شبر فيه قد تم استكشافه، يظهر فريق من العلماء الشبان ليفتح نافذة على كون خفي، يختبئ في جذور النباتات البحرية وحطام السفن الغارقة وكائنات لا تميزها العين المجردة. هؤلاء ليسوا علماء تقليديين، بل روّاد في مجال استكشاف الحياة المجهرية بهدف إنشاء خريطة رقمية للطب الحديث، قد تقود إلى اكتشاف أدوية وتقنيات علاجية جديدة.
مغامرات بحرية: البحث عن كنوز ميكروبية في أعماق المتوسط
على سواحل مالطا، يقود مارلون كلارك فريقًا من الغواصين والعلماء لاكتشاف الكائنات الدقيقة المختبئة في أعماق البحر. لا يتعامل هؤلاء مع الذهب أو الكنوز، بل مع طحالب وبقع صغيرة قد تخبئ أسرارًا علاجية. يغوص الفريق إلى أعماق تصل لـ60 مترًا في بيئات بحرية لم تُلمس من قبل، بحثًا عن تنوع بيولوجي قد يحمل حلولًا لأمراض معقدة.
من ضفاف النهر إلى قلب القطب: قصة تحول شخصي

نشأ مارلون على ضفاف نهر موحل في إسيكس، دون علاقة حقيقية بالبحر. لكن شغفه بالأحياء البحرية أخذه إلى القطب الجنوبي مرتين، حيث عاش شتاءً جليديًا واكتسب خبرة الغوص في الظروف القاسية. بحثه البسيط عن “وظيفة استكشافية” على الإنترنت غيّر مسار حياته نحو عالم الميكروبات والاستكشاف الجيني.
شركة صغيرة بأحلام ضخمة: “Basecamp” ورؤية رقمنة الحياة
تأسست شركة Basecamp Research عام 2019 على يد باحثين شابين أرادا ترميز الشيفرة الوراثية للكائنات في بيئات طبيعية قاسية. من خيمة في أيسلندا إلى أبعد نقطة في المحيط الهادئ، يعمل الفريق على تجميع قاعدة بيانات حيوية ضخمة، يصفونها بـ”الإنترنت البيولوجي”، تهدف إلى فهم وتحليل الحياة بدقة رقمية غير مسبوقة.
الذكاء الاصطناعي كأداة لفهم الحياة
العينات التي تُجمع تُخزَّن رقميًا وتُستخدم لتدريب خوارزميات ذكاء اصطناعي متقدمة، تُستخدم بدورها لتسريع اكتشاف الأدوية وفهم التفاعلات الجينية. ساهمت بيانات Basecamp في تحسين أداء بعض الخوارزميات بنسبة وصلت إلى 600%، مما يعكس قيمة البيانات الحيوية النادرة.
اقرا ايضا :
أوروبا تشتعل: موجة حر تاريخية تشل الحياة وتتسبب في وفيات وحرائق
معضلة أخلاقية: هل هو اكتشاف أم قرصنة بيولوجية؟

رغم النوايا العلمية النبيلة، تواجه Basecamp تساؤلات أخلاقية حول عدالة الحصول على الموارد البيولوجية، خاصة من دول الجنوب. وتفرض اتفاقية ناغويا الدولية على الشركات تعويض الدول الموردة، وهو ما التزمت به الشركة بدفع 1% من إيراداتها. لكن الشكوك لا تزال قائمة حول جدوى هذه الترتيبات وعدالتها.
مختبر في موقع تاريخي: بين علم الآثار والبيولوجيا
يقوم الفريق بأبحاثه في مختبر مؤقت داخل مستشفى بحري قديم في مالطا، حيث يستخرج كلارك الحمض النووي من عينات جُمعت من حطام السفن القديمة. وقد أسفرت أعمالهم عن اكتشاف آلاف الأنواع الميكروبية الجديدة التي لم يُوثق وجودها من قبل.
عندما يصبح العلم مسألة حياة أو موت
أُصيب أوليفر فينس، أحد مؤسسي الشركة، بسرطان الدم عام 2023. أثناء علاجه، بدأ يتتبع مصدر الأدوية التي يستخدمها ليكتشف أن كثيرًا منها مأخوذ من كائنات بحرية أو فطرية. هذا جعله أكثر إيمانًا بأن مشروعهم يمكن أن يُحدث ثورة في الطب، ويجعل من البيانات الجينية وسيلة لتصميم علاجات أكثر دقة.
نحو أدوية مبرمجة: ثورة LSRs
تعمل Basecamp على تقنيات بيولوجية تُدعى LSRs، يمكنها نقل سلاسل DNA طويلة بدقة، ما يُمكن من تطوير علاجات تستهدف الجينات بدقة مذهلة. ويأمل الباحثون أن تُستخدم هذه التقنيات لتصميم أدوية “مبرمجة” لكل مريض، في وقت قياسي لا يتجاوز أسبوعًا.
بين الشفافية والاستغلال: من يمتلك الحياة؟
على الرغم من محاولات الشركة لمشاركة الأرباح والبيانات مع الدول المشاركة، يرى بعض النقاد أن المشروع قد يعيد إنتاج أنماط الاستغلال الاستعماري. القلق يتصاعد حول مستقبل الشركة إذا ما استحوذت عليها شركات تكنولوجية كبرى، مثل Google أو OpenAI، مما قد يهدد الشفافية والمساواة.
نحو إنترنت بيولوجي: حلم رقمنة الحياة
يؤمن فريق Basecamp أن بناء خريطة رقمية للحياة على الأرض يمكن أن يُحدث ثورة مماثلة لاختراع الإنترنت، لكنها بيولوجية. إذا نجح المشروع، فقد نصبح أمام نقطة تحول في فهمناللحياة، وربما نتمكن من إعادة برمجتها كما نعيد برمجة التطبيقات اليوم.