الوكالات

معركة حيفا 1918: الجنود الهنود الذين رسموا مستقبل الشرق الأوسط

بعد أكثر من قرن على اندلاع الحرب العالمية الأولى، لا تزال بعض معاركها تحمل أسرارًا قلّما تناولتها الكتب، وفي مقدمتها معركة تحرير مدينة حيفا عام 1918. هذه المعركة التي جمعت بين شجاعة الفرسان الهنود وقوة الإرادة العسكرية تحولت إلى نقطة فارقة في مسار الحرب، وأثرت بشكل مباشر في ملامح الشرق الأوسط الحديث. وبالرغم من أن هذه البطولات طُمست لفترة طويلة تحت سرديات استعمارية نسبت الفضل إلى الجيش البريطاني، فإن الحقائق التاريخية عادت لتكشف الدور الحاسم للجنود الهنود الذين سطّروا بدمائهم لحظة فاصلة في التاريخ العسكري والسياسي للمنطقة. واليوم، لم تعد حيفا مجرد مدينة على المتوسط، بل رمزًا لذاكرة مشتركة بين الهند وإسرائيل، تعكس إرثًا عسكريًا أصبح لاحقًا جسرًا للتعاون الاقتصادي والسياسي بين البلدين.

 

اعتراف متأخر يعيد كتابة التاريخ

 

لم يكن البريطانيون من حرروا حيفا كما ورد في الكتب، بل الجنود الهنود الذين خاضوا معركة شرسة ضد القوات العثمانية. هذا ما أعلنه يونـا ياهـاف، عمدة المدينة، مؤكدًا أن المناهج الدراسية ستُعدّل لتصحيح هذا الخطأ التاريخي. الإعلان جاء خلال مراسم رسمية في مقبرة الجنود الهنود بحيفا، بحضور مسؤولين ودبلوماسيين من الهند وإسرائيل. هذا الاعتراف المتأخر لم يكن مجرد خطوة بروتوكولية، بل بمثابة إعادة اعتبار لدور آلاف الجنود الهنود الذين قاتلوا خارج أوطانهم دفاعًا عن قضايا لم تكن تخصهم مباشرة، لكنهم صنعوا منها إرثًا خالدًا. إعادة كتابة هذه الحقيقة أعادت كذلك إحياء الذاكرة المشتركة، وفتحت المجال أمام قراءة جديدة للعلاقات بين البلدين.

 

آخر هجوم فرسان في التاريخ

 

تصف كتب التاريخ معركة حيفا بأنها آخر الحملات الكبرى لسلاح الفرسان، حيث واجهت وحدات الفرسان الهندية المدججة بالرماح والسيوف، القوات العثمانية والألمانية المزودة بالمدافع الرشاشة والمدفعية الثقيلة. ألوية جودبور وميسور وحيدر أباد تقدمت في هجوم جريء وصفه المؤرخون بالانتحاري، نظرًا لعدم تكافؤ القوى. ومع ذلك، تمكن الجنود الهنود من اختراق خطوط الدفاع المحصنة على مشارف جبل الكرمل، وسط معركة امتزجت فيها الشجاعة بالتضحية. هذه اللحظة جسدت نهاية عصر طويل من حروب الفرسان التقليدية، وفتحت الطريق أمام التكتيكات العسكرية الحديثة التي طغت عليها المدافع والآليات.

معركة حيفا أنهت عصر الفرسان وفتحت الطريق للحرب الحديثة.

نتائج حاسمة غيّرت المعادلة

 

في 23 سبتمبر 1918، تمكنت القوات الهندية من تحرير مدينة حيفا بعد أن تكبدت خسائر محدودة نسبيًا بلغت نحو 44 بين قتيل وجريح، مقابل نتائج باهرة تمثلت في أسر 1,350 جنديًا تركيًا وألمانيًا، إضافة إلى الاستيلاء على 17 مدفعًا و11 رشاشًا. هذه النتائج لم تكن مجرد نصر عسكري محدود، بل شكلت نقطة تحول في مسار العمليات العسكرية ضد الدولة العثمانية. السيطرة على حيفا فتحت الطريق أمام القوات البريطانية وحلفائها للتقدم شمالًا نحو فلسطين ولبنان وسوريا، وهو ما سرّع من انهيار الإمبراطورية العثمانية بعد خمسة قرون من السيطرة على المنطقة.

 

“بطل حيفا” ودور الجنود الهنود

 

من بين قصص البطولة الفردية التي ارتبطت بهذه المعركة يبرز اسم الميجور دالبات سنغ، الذي أصيب برصاص رشاش خلال الهجوم، لكنه واصل التقدم حتى استشهد متأثرًا بجراحه. يُعرف اليوم في الهند بلقب “بطل حيفا”، وأصبح رمزًا لشجاعة الفرسان الهنود الذين خاضوا المعركة بلا تردد. أطلق عليهم لقب “جو هوكوم” أي “كما تأمر”، في إشارة إلى طاعتهم وانضباطهم. قصته ليست مجرد حكاية عن ضابط شجاع، بل تعبير عن الروح التي حملها هؤلاء الجنود الذين وجدوا أنفسهم يقاتلون في أرض بعيدة، لكن تضحياتهم تركت أثرًا عميقًا في ذاكرة شعوب أخرى.

الميجور دالبات سنغ، “بطل حيفا”، جسّد شجاعة الفرسان الهنود بتضحية خالدة ورمز للانضباط والطاعة

أثر استراتيجي على مستقبل المنطقة

 

لم تكن معركة حيفا حدثًا عسكريًا عابرًا، بل لحظة مفصلية في إعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط. نجاح القوات الهندية في تحرير المدينة سمح لبريطانيا بفرض سيطرتها على فلسطين تحت نظام الانتداب، وهو ما وضع الأسس السياسية لنشأة دولة إسرائيل لاحقًا. بهذا المعنى، لم يكن تأثير المعركة محصورًا في سياق الحرب العالمية الأولى، بل امتد ليرسم مسارًا جديدًا للمنطقة بأكملها. لقد ساهمت في تقويض حكم عثماني استمر لقرون، ومهّدت لعصر جديد من النفوذ البريطاني ثم الصراع العربي ـ الإسرائيلي.

 

من ذكرى عسكرية إلى شراكة سياسية

 

رغم مرور أكثر من مئة عام، لا تزال معركة حيفا حاضرة في الذاكرة السياسية والثقافية بين الهند وإسرائيل. ففي عام 2017، قام رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بزيارة مقبرة الجنود الهنود في حيفا، في بادرة حملت بعدًا سياسيًا ورسالة تقدير لضحايا المعركة. وبعدها بعام، أعادت الهند تسمية ساحة “تين مورتي” الشهيرة في نيودلهي إلى “تين مورتي حيفا تشوك”، لتصبح رمزًا للتضحيات المشتركة. هذه الخطوات لم تكن مجرد احتفالية تاريخية، بل تعبيرًا عن تجدد الشراكة التي امتدت من ساحات المعارك إلى طاولات السياسة والاقتصاد.

 

الاقتصاد يربط الماضي بالحاضر

 

معركة حيفا لم تبق حبيسة التاريخ العسكري، بل انعكست رمزيًا على الواقع الاقتصادي والسياسي الحديث. ففي عام 2023، استحوذت مجموعة “أداني” الهندية بالشراكة مع “جادوت” الإسرائيلية على غالبية أسهم ميناء حيفا، ما جعله محورًا استراتيجيًا لمشروع تحالف I2U2 الذي يربط الهند وإسرائيل والولايات المتحدة والإمارات. الهدف من هذا المشروع هو إقامة ممر تجاري جديد يربط غرب الهند بأوروبا عبر الخليج وحيفا، ما يحول المدينة التي تحررت بدماء الجنود الهنود قبل قرن إلى نقطة ارتكاز لمشروعات القرن الحادي والعشرين.

 

إرث خالد يعيد صياغة الحاضر

 

معركة حيفا لم تكن مجرد مواجهة عسكرية انتهت بانتصار تكتيكي، بل حدثًا تاريخيًا رسم معالم المستقبل. فهي تؤكد أن الجنود الهنود لم يكونوا مجرد أدوات في معارك الإمبراطوريات، بل فاعلين رئيسيين في صياغة مصير الشرق الأوسط. واليوم، أصبحت حيفا رمزًا يجمع بين الذاكرة والتطلعات، حيث تلتقي فيها رواية الماضي مع رهانات الحاضر، لتثبت أن صفحات التاريخ المنسية قادرة دومًا على استعادة مكانتها وإلهام الأجيال.

اقرأ أيضاً

البحرية الإسرائيلية تعترض أسطولًا متجهًا إلى غزة وسط جدل دولي

رحمة حسين

رحمة حسين صحفية ومترجمة لغة فرنسية، تخرجت في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية وآدابها بجامعة عين شمس. تعمل في مجال الصحافة الثقافية والاجتماعية، إلى جانب عملها في الترجمة من الفرنسية إلى العربية. تهتم بقضايا حقوق الإنسان وحقوق المرأة، ولها كتابات مؤثرة في هذا المجال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى