ترامب يتجاوز الكونغرس: أزمة دستورية بسبب صرف رواتب العسكريين أثناء الإغلاق الحكومي

أثارت خطوة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بصرف رواتب أفراد القوات المسلحة طيفًا واسعًا من الجدل الدستوري والسياسي في واشنطن، بعد أن أعاد توجيه اعتمادات من وزارتي الدفاع والبحث لتغطية الأجور أثناء الإغلاق الحكومي الذي بدأ مطلع أكتوبر. جاء القرار في وقت تعرّضت فيه مرافق حكومية لشلل جزئي، فتُسرَّح نحو 700 ألف موظف فدرالي مؤقتًا بينما يعمل مئات الآلاف من العاملين دون أجر، ما زاد الضغوط على الإدارة. ويقول خبراء دستوريون إن هذه الخطوة قد تشكّل سابقة خطيرة، لأنها تنزع من الكونغرس السيطرة الحصرية على قرارات الإنفاق، وتمنح السلطة التنفيذية هامشًا واسعًا لإعادة تخصيص الأموال. ويشبّه منتقدون هذا الإجراء بمحاولاتٍ سابقة لتجاوز الأطر التشريعية، محذرين من أن السماح بمثل هذه التصرفات قد يغير قواعد اللعبة في إدارة المال العام ويعطي رؤساء لاحقين هامشًا فسيحًا لتفسير صلاحياتهم بطرق قد تضر بالديمقراطية البرلمانية.
سابقة تهدد مبدأ الفصل بين السلطات
ثار خلاف حاد حول مدى شرعية تحويل اعتمادات مخصصة لأغراض محددة إلى بند رواتب العسكريين، إذ يرى كثير من الدستوريين أن مثل هذا التحويل يعدّ خروجًا عن قواعد الميزانية الفيدرالية. فالموازنات تُصاغ وتُمنح بواسطة الكونغرس بهدف إعطاء أولويات واضحة للإنفاق، وأي تحويل دون تصديق تشريعي يثير أسئلة عن التزام الإدارة بهذه الحدود. ويشدد النقاد على أن السماح بمثل هذه التحويلات قد يفتح الباب لسلوكات تنفيذية لا تخضع لمراجعة تشريعية، ما يضعف دور الكونغرس في الرقابة على الإنفاق ويُخاطر بإضعاف الفصل بين السلطات. ويؤكد بعض الخبراء أن موقف الكونغرس حاسم هنا: فوجود ردة فعل تشريعية سريعة أو تشريعات مقيدة يمكن أن يوقف أي ميل نحو التوسع في الصلاحيات التنفيذية، بينما قد يؤدي المرونة أو الصمت إلى ترسيخ سابقة يصعب إلغاؤها.
استخدام أموال الدفاع.. بين القانون والسياسة
أفادت تقارير بأن الحكومة استعملت نحو ثمانية مليارات دولار من مخصصات الأبحاث والتطوير في وزارة الدفاع لسداد رواتب الجنود، وهو تحرك وصفه خبراء ماليون بأنه مثير للجدل من الناحية القانونية. وحذر مختصون من أن صرف أموالٍ لغايات مختلفة عن الغرض المخصص لها يخالف معايير الاستخدام الحكومي وقد يعرّض مديرين ومسؤولين لمساءلات قانونية بموجب قوانين تمنع الانحراف في الإنفاق. ثمة قلق إضافي من أن بهذا السلوك تُضعف الإدارة قواعد الالتزام البرمجي والميزانية الذي يُعد أداة مركزية لضبط الأولويات السياسية والاقتصادية للدولة. ويذكر معارضون أن هذا الاستخدام للأموال قد يضعف جهود البحث والتطوير العسكرية والمدنية على حد سواء، لأن استنزاف مخصصاتها لرواتب طارئة يقلص الموارد المتاحة للابتكار والاستعداد المستقبلي.
تبرع ملياردير لإغاثة الجنود يثير أسئلة شفافية
زاد التوتر بعد إعلان البيت الأبيض عن تبرع بقيمة 130 مليون دولار من داعمٍ خاص لتغطية أجور العسكريين، وهو ما دفع مراقبين إلى التساؤل عن مدى ملاءمة اعتماد أموال خاصة لواجبات عامة. وأكد البنتاغون أن التبرع قُبِل بمقتضى صلاحياته العامة لاستقبال الهبات، وشرطت الإدارة أن تُستخدم الأموال لأجور العسكريين، لكن القانونيين رأوا في قبول هبات بهذا الحجم خطرًا من حيث الشفافية والتأثير السياسي. وطرح النقاش أسئلة حول آليات الرقابة على مصادر التمويل وطبيعة العلاقة بين مانحين كبار ومسؤولين تنفيذيين. وانتقد محللون كذلك غياب آليات رقابية فورية تمنع توظيف التبرعات الخاصة في مثل هذه الوظائف الحكومية دون إشراف تشريعي، مطالبين بإجراءات شفافية وتدقيق مستقل يوضح مصدر الأموال وشروط استخدامها وتأكيد عدم وجود تضارب مصالح.
امتداد لسياسة توسيع الصلاحيات التنفيذية
يرى محللون أن هذه الخطوة تُكمل سلسلة من الإجراءات التنفيذية التي لجأ إليها ترامب منذ توليه المنصب، بما في ذلك إعادة توجيه موارد لتمويل مشروعات أو سياسات اعتمدتها إدارته دون موافقة كاملة من الكونغرس. هذا النمط أثار قلقًا عبر طيف سياسي واسع، إذ يعتبره البعض تحرّشًا بسلطة الهيئة التشريعية في تحديد أولويات الإنفاق العام. ويخشى قانونيون من أن تتخذ هذه السلوكيات منحىً دائمًا، بحيث تصبح الرئاسة قادرة على إعادة توجيه الأموال لغايات سياسية مثيرة للجدل، مما يقوّض قواعد الشفافية والحوكمة الرشيدة في إدارة المال العام. ولا يخفى أن بعض البرلمانيين الجمهوريين الذين يشعرون بالقلق من هذه السابقة قد يضغطون من الداخل على إدارة الحزب لإظهار موقف واضح يعيد التأكيد على دور الكونغرس، لأن السماح بهذه الممارسات قد يضر بوضعهم السياسي في المستقبل.
منع سطوة الإنفاق: دعوات للرد التشريعي أو القضائي
حذر خبراء الميزانية والدستور من أن استمرار تحجيم دور الكونغرس في الإنفاق قد يؤدي إلى نتائج مؤذية لعملية صنع السياسة العامة، من بينها صعوبة التوصل إلى تسويات لإعادة فتح الحكومة لأن الثقة في التزامات الإدارة ستتراجع. ويؤكدون أن معالجة هذا الخلل يحتاج إلى استجابة تشريعية واضحة تعيد تأكيد سلطة الكونغرس، أو إلى أحكام قضائية تضع حدودًا لا يمكن لأي رئيس تجاوزها في إعادة تخصيص الاعتمادات. والسيناريو الأمثل بحسب محللين هو تفعيل رقابة برلمانية أو تدخل قضائي واضح يعيد التوازن بين السلطات ويمنع أي رئيسٍ من الادعاء بمقاصد إنسانية لتبرير تجاوز قواعد الإنفاق، وإلا ستبقى واشنطن أمام معضلة متجددة بين إنقاذ جنود اليوم والحفاظ على قواعد اللعب الديمقراطي للمستقبل.



