العبقرية في خطر: كيف تهدد النزعة التقدمية مستقبل الغرب المعرفي؟
العبقرية في مرمى التقدمية: كيف يخسر الغرب معركته ضد الصين؟

في عام 1841، كتب الفيلسوف توماس كارلايل ساخطًا على عصره: “هذه حقبة تنكر وجود الرجال العظماء، وتشكك في جدواهم.” وبعد نحو قرنين، يبدو أن هذه النزعة التسطيحية — التي ترفض فكرة “العبقرية” بوصفها تمييزًا غير عادل — قد أصبحت أكثر تجذرًا في الغرب، لا سيما داخل التيارات التقدمية. والمفارقة أن هذا الرفض للعبقرية لا يأتي في عصر طبقي أو إقطاعي، بل في زمن أصبحت فيه العبقرية محرك الاقتصاد، وسلاح الدولة، وعصب التكنولوجيا.
العبقرية تحت الحصار الأيديولوجي
يستعرض وولدريدج كتاب الصحفية البريطانية هيلين لويس الجديد “أسطورة العبقرية”، والذي ترى فيه أن مفهوم “العبقري” ليس فقط مبهمًا، بل أداة سلطوية ذكورية تبرر استبداد الأفراد وتخفي الجهود الجماعية. وتستخدم شخصية إيلون ماسك كرمز للعبقري “السيئ”. لكنها، بحسب الكاتب، لا تقدم جديدًا، بل تعيد إنتاج أفكار شائعة منذ عقود، مثل أطروحات ستيفن جاي جولد في “خداع قياس الإنسان”.
النظام التعليمي يخذل المتفوقين
رغم أن الأوساط العلمية لا تزال تحتفي بالجوائز الكبرى، مثل نوبل، وتواصل شركات التكنولوجيا الكبرى البحث عن العقول الفذة، فإن المؤسسات التعليمية في بريطانيا وأمريكا تميل إلى تسطيح الفروق الفردية، باسم “المساواة”. بريطانيا ألغت المدارس الانتقائية منذ الستينيات، واليوم تواصل وزيرة التعليم جهود تمييع المناهج. في أمريكا، لا يوجد سوى 140 مدرسة انتقائية من أصل 24 ألف مدرسة ثانوية حكومية، وحتى هذه تواجه ضغوطًا سياسية لإلغاء اختبارات القبول.
ضياع العباقرة من الطبقة العاملة
النتيجة المباشرة لهذا الاتجاه أن المواهب الخارقة من أبناء الطبقة الكادحة تضيع في الزحام. النظام التعليمي لا يلتقطهم ولا يوجههم، ما يؤدي إلى فجوة متزايدة بين الإمكانات الطبيعية والفرص المتاحة. في المقابل، يخصص النظام موارد ضخمة لدعم المتأخرين دراسيًا، فيما لا يحصل المتفوقون إلا على الفتات. وفي عام 2024، بلغ تمويل الحكومة الأمريكية للبرامج الفيدرالية المخصصة للموهوبين نحو 16.5 مليون دولار فقط.
الإبداع في حالة ركود
الإهمال المؤسسي للعبقرية ينعكس في مؤشرات الابتكار: أفكار جديدة أقل، هبوط في مؤشرات الإبداع، وركود في الثقافة الشعبية (هوليوود غارقة في إعادة إنتاج القديم). اختبارات تورانس للإبداع تشير إلى تراجع مستمر منذ التسعينيات، رغم ارتفاع متوسط الذكاء.
العبقرية لا تعني النخبوية.. بل الثورة
خلافًا لتصويرها كقناع للسلطة، لعبت “العبقرية” دورًا ثوريًا في التاريخ: الثورة الأمريكية، والفرنسية، والنهضة البريطانية اعتمدت على صعود أفراد خارقين للعادة — كثيرون منهم من خلفيات فقيرة، مثل عالم الرياضيات الهندي رامانوجان. العبقري، بطبيعته، يهدد النظام القائم لأنه يعيد صياغة المعرفة أو التكنولوجيا أو الفنون.
العلم لا يبرر التسطيح
تُتهم فكرة “العبقرية الفطرية” بأنها غطاء لأفكار عنصرية أو إقصائية، بسبب ارتباطها تاريخيًا بأفكار مثل “اليوجينيا”. لكن الكاتب يذكر أن هذه المواقف كانت سائدة في كل الأوساط الفكرية، حتى عند الاشتراكيين مثل سيدني ويب. وفي المقابل، لا يجب أن تؤدي تلك الأخطاء إلى تجاهل التراكم العلمي في علم النفس والوراثة الذي يثبت وجود تباينات طبيعية حادة في القدرات العقلية.
العباقرة مزعجون… لكن لا غنى عنهم
نعم، بعض الشخصيات “العبقرية” تثير الجدل: إيلون ماسك يعبث بالسياسة، وجيف بيزوس يحتفل في فينيسيا بينما العالم يواجه أزمات اجتماعية. لكن وولدريدج يذكرنا بأن هؤلاء، أو من هم على شاكلتهم، هم من أعادوا اختراع الحوسبة الشخصية، ويقودون اليوم ثورة الذكاء الاصطناعي التي ستعيد صياغة المجتمع — للأفضل أو الأسوأ.
صراع البقاء: الغرب في مواجهة “الاستحقاق الاستبدادي”
الصين تمضي قدمًا في بناء “استحقاقية استبدادية” تمشط السكان بحثًا عن المواهب وتوجههم نحو الهندسة، والفيزياء، والجيش. في أحدث مؤشر عالمي للأبحاث العلمية، تسيطر الجامعات الصينية على 8 من أفضل 10 مراكز، فيما تراجعت جامعات الغرب. الأسوأ أن الصين تتفوق كذلك في تقنيات السلاح المتطورة. وهذا ما دفع معهد “أمريكان إنتربرايز” للتحذير: أزمة التعليم في الغرب باتت خطرًا على الأمن القومي.
اقرأ أيضاً تايوان بين الحصار والاعتماد الطاقي: النووي خيار الصمود الضروري
الفرصة الأخيرة: هل يعيد الغرب ابتكار آلة اكتشاف العباقرة؟
في الحرب الباردة، بنى الغرب مؤسسات عملاقة لاكتشاف الموهوبين، مثل برامج Early Admission وAP في أمريكا، ومنح التميز الأكاديمي. الكاتب يختتم بنداء: إذا استسلم الغرب لـ”أسطورة أن العبقرية وهم”، فإنه لن يخسر تفوقه فقط — بل سيخسر مستقبله.
اقرأ أيضا