الاقتصاد

ماكرون يحظي باستقبال ملكي في لندن.. لكن العلاقات الفرنسية البريطانية لا تزال رهينه حب مشوب بالكراهية

العلاقات الفرنسية البريطانية: تحالف استراتيجي أم تنافس تاريخي؟

بين مراسم الاحتفاء في قصر وندسور والعربات الملكية والاستعراضات الرسمية، قد يبدو المشهد وكأنه تجسيد لدفء العلاقات بين لندن وباريس، لكن الحقيقة السياسية أبعد ما تكون عن الانسجام الكامل. زيارة الدولة التي يجريها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بريطانيا هي الأولى من نوعها منذ تصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016، وهي زيارة تعكس في ظاهرها تقاربًا استراتيجيًا في زمن اضطرابات دولية، لكنها في جوهرها تظل محكومة بتراث من الشكوك والتنافس والخلافات السياسية البنيوية.

 

من أوكرانيا إلى الردع النووي، ومن حماية السوق الأوروبية إلى توازنات ما بعد البريكست، تتعدد الملفات وتتشابك المصالح. لكن السؤال المحوري يظل قائمًا: هل يمكن لترميم الشكليات أن يُخفي الفجوة العميقة بين دولتين لطالما تبادلتا الإعجاب والعداء في آن؟ هذا التقرير يرصد خلفيات الزيارة، ويحلل طبيعة العلاقات المتقلبة بين باريس ولندن.

 

علاقة ملتبسة تحت مظلة الجغرافيا والتاريخ

رغم القرب الجغرافي الشديد بين بريطانيا وفرنسا، إلا أن العلاقات بين القوتين النوويتين في أوروبا لطالما اتسمت بالتوتر والندية. من الحروب النابليونية إلى البريكست، مرّت العلاقات بين البلدين بموجات من التحالف والصراع. حتى اليوم، تتجلى هذه المعضلة التاريخية في خطاب مزدوج: شراكة استراتيجية من جهة، وتوجس سيادي من جهة أخرى.

 

ماكرون لا ينسى أن بريطانيا غادرت “النادي”

رغم أهمية بريطانيا الاستراتيجية لأوروبا، فإن ماكرون لا يبدو مستعدًا لتقديم أي تنازلات خاصة لها على صعيد الترتيبات التجارية أو التكامل الاقتصادي. في المخيال السياسي الفرنسي، الأمر لا يتعلق ببريطانيا وحدها، بل بالدفاع عن وحدة الاتحاد الأوروبي ومنع تفككه، أو حتى إعطاء انطباع بأن مغادرة التكتل قد تكون خيارًا مجديًا.

 

ستارمر في موقف صعب… وباريس لا تسهّل المهمة

يحاول رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر إصلاح ما أفسده البريكست، لكن دون الخروج عن الخطوط الحمراء التي تعهد بها: لا عودة للسوق الأوروبية، ولا حرية حركة. هذه المواقف تُقابل بمقاومة حازمة من باريس التي ترى أن أي مرونة أوروبية مع لندن قد تفتح الباب أمام مطالب مماثلة من دول أخرى.

 

الاستقبال الملكي لا يعني إعادة نظر في المواقف

رغم فخامة الاستقبال في وندسور والأجواء البروتوكولية الفاخرة، فإن ماكرون سيظل متمسكًا بموقفه الرافض لأي “وضع خاص” لبريطانيا داخل المنظومة الأوروبية. الزيارة مناسبة لإظهار الود، لكنها لا تغيّر شيئًا في جوهر الحسابات السياسية الفرنسية.

الدفاع المشترك: حيث يلتقي الطرفان

إذا كانت الملفات الاقتصادية موضع خلاف، فإن التعاون الدفاعي يمثل أرضية مشتركة. لدى بريطانيا وفرنسا أقوى جيشين في أوروبا، وهما حريصتان على تعزيز هذا التعاون في مواجهة التهديدات الروسية، خاصة مع تراجع الدعم الأمريكي للقارة.

 

تحذير غير مباشر لواشنطن

من المتوقع أن يتخلل خطاب ماكرون في البرلمان البريطاني رسائل ضمنية للولايات المتحدة، تعكس القلق الأوروبي من انسحاب واشنطن من التزاماتها الأمنية. وسيحرص الجانبان على التأكيد أن أمن أوكرانيا هو أمن أوروبا بأسرها، حتى في حال تراجع الدعم الأمريكي.

 

القنبلة النووية في قلب النقاش

من النقاط الأهم في الزيارة، طرح موضوع الردع النووي الأوروبي. في ظل التردد الأمريكي، تسعى فرنسا إلى توسيع نطاق “مصالحها الحيوية” ليشمل أمن القارة ككل، وربما تدفع نحو حوار استراتيجي أوروبي بشأن الاستخدام السياسي للردع النووي.

 

هل يعيد ستارمر صيغة “شيراك – ميجور”؟

في عام 1995، صرّح رئيس الوزراء البريطاني جون ميجور بأن “مصالح بريطانيا الحيوية لا يمكن أن تُهدد دون أن تكون مصالح فرنسا مهددة أيضًا”. اليوم، هناك دعوات لتوسيع هذه المعادلة لتشمل باقي الحلفاء الأوروبيين، كخطوة نحو هوية دفاعية أوروبية داخل الناتو.

 

اليمين المتطرف يضغط في كلا البلدين

على المستوى الداخلي، يعاني الزعيمان من تصاعد اليمين الشعبوي. ماكرون يفتقر للأغلبية البرلمانية ولا يستطيع الترشح مرة أخرى، بينما يواجه ستارمر تمردًا داخل حزبه، كما أن الهجرة والهوية الوطنية أصبحت أوراق ضغط شعبية في وجه أي انفتاح سياسي.

 

أوروبا تحتاج إلى شراكة عقلانية لا شعارات ملكية

في المحصلة، تحمل الزيارة رمزية سياسية مهمة، لكنها لن تحل جذور الأزمة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي. فالعلاقات الفرنسية البريطانية تظل رهينة تاريخ معقد ومصالح متشابكة، ونجاحها يتطلب حوارًا صريحًا وشراكة مبنية على المصالح لا المجاملات.

اقرأ أيضاً

هل تستطيع أوروبا الدفاع عن نفسها دون الولايات المتحدة ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى