
رغم ما يُثار من انتقادات حول قدم مادة الكلاسيكيات واتهامها بالتعالي النخبوي والانفصال عن قضايا العصر، ما زالت أساطير الإغريق والرومان تفرض حضورها في الثقافة الشعبية، من الكتب إلى دور السينما، وتستمر في إلهام مفكرين ومخرجين وقراء على حد سواء.
فمن “الإلياذة” و”الأوديسة”، إلى أعمال شيشرون وسقراط، تتواصل الأسئلة الكبرى عن الحب، والسلطة، والمصير، والمعنى، وتجد لنفسها مكانًا بين الأزمات السياسية في واشنطن، والقلق الشخصي في زمن الذكاء الاصطناعي.
الكلاسيكيات في مرمى النقد… ولكنها لا تنهار
في العقد الأخير، تعرضت الكلاسيكيات لهجوم متصاعد من تيارات فكرية تعتبرها مادة “يورو-مركزية” ذات نزعة إمبريالية وذكورية. المؤرخ النمساوي والتر شايدل دعا في كتابه الأخير “ما هي التاريخ القديم؟” إلى تفكيك أقسام الكلاسيكيات التقليدية وإدماج التاريخ اليوناني والروماني ضمن مناهج تاريخية أوسع وأكثر شمولاً، تشمل حضارات الشرق الأدنى وجنوب آسيا.
ورغم وجاهة الدعوة لمزيد من الانفتاح، فإن شايدل نفسه يعترف بأن القصص القديمة تحتفظ بجاذبية لا تقاوم، وأن تدريسها لا يزال يحمل قيمة إنسانية وثقافية كبيرة إذا ما أُعيد تقديمه برؤية نقدية جديدة.
موجة نسوية جديدة تعيد صياغة الحكايات القديمة
من أبرز مظاهر عودة الكلاسيكيات إلى الواجهة كان صعود الروايات النسوية التي أعادت سرد الإلياذة والأوديسة من منظور شخصيات أنثوية طالما تم تهميشها. رواية “سيرسي” لمادلين ميلر و*”الصوت الصامت”* لبات باركر هما مثالان ناجحان في هذا الاتجاه، حيث سلّطتا الضوء على الشخصيات النسوية في سياقات الذكورية العسكرية الملحمية.
هذه المقاربات الحديثة لم تكتف بإضفاء طابع إنساني على الأساطير، بل أعادت تقديمها لجمهور جديد يبحث عن صوته الخاص داخل السرديات القديمة.
“الأوديسة” من جديد… نحو قراءة إنسانية أكثر عمقًا
هذا الصيف شهد إطلاق فيلم The Return للمخرج الإيطالي أوبرتو باسوليني، وهو معالجة قاتمة لأحداث الأوديسة، تركز على عودة أوديسيوس (الذي يجسده رالف فاينس) إلى جزيرته إيثاكا، وعلاقته بزوجته بينيلوبي وابنه تيليماكوس، متجاهلًا مغامراته السابقة مع الوحوش والآلهة.
في السياق نفسه، يستعد كريستوفر نولان لإطلاق نسخة سينمائية ملحمية جديدة للعمل نفسه، بطولة مات ديمون. وبينما تتجدد المعالجات السينمائية، تُطرح ترجمة جديدة للأوديسة من قبل دانيال مندلزون، تتميز بلغتها المرهفة وولائها للشكل الشعري الأصلي، لتنافس النسخة الشهيرة السابقة لإميلي ويلسون التي قدّمت قراءة حداثية جريئة للنص عبر استخدام تعبيرات أكثر صراحة، كمصطلح “عبدة” بدلًا من “خادمة”، في مواجهة مباشرة مع النزعة الذكورية في النص الكلاسيكي.
من السياسة إلى الفلسفة… الكلاسيكيات مرآة لأزمات الحاضر
من اللافت أن تظل الأساطير الكلاسيكية قادرة على إلقاء الضوء على الأزمات السياسية المعاصرة. في الولايات المتحدة، مثلاً، لجأ جون بولتون، مستشار الأمن القومي السابق، إلى الاستشهاد بتاريخ الجمهورية الرومانية المتأخرة لتفسير صعود دونالد ترامب، نافيًا أن يكون شبيهًا بالقيصر أو سولا، بل مراهناً على قدرة النظام الجمهوري على النجاة من الصدمات.
ويظهر هذا التفاعل مع الماضي بوضوح في كتاب “جمهورية بلا قانون” للمؤرخ جوزايا أوسغود، الذي يروي سقوط الجمهورية الرومانية من خلال حياة خطيبها الشهير شيشرون، مسلطًا الضوء على فساد الطبقة الحاكمة والتلاعب بالقوانين، في أوجه شبه لا تخطئها العين مع واشنطن اليوم.
الفلسفة القديمة… طوق نجاة في زمن الارتباك
وبينما يبحث كثيرون عن إجابات وسط فوضى الحياة الرقمية والقلق الوجودي، يجدون ملاذًا في الأسئلة الكبرى التي طرحها سقراط وأفلاطون والرواقيون. الكاتبة والفيلسوفة أغنيس كالارد تقدم في كتابها الجديد “سقراط المفتوح” دعوة للعودة إلى “الحياة الفلسفية”، بأسلوب مرح وعميق، يناقش أسئلة المعنى، والحرية، والمسؤولية، بعيدًا عن السطحية السائدة.
كالارد، المعروفة بطرح الأسئلة الوجودية على المارة في جامعة شيكاغو، ترى أن الفلسفة ليست ترفًا نخبويًا، بل ضرورة يومية تساعدنا على التفكير في ما نفعله ولماذا نفعله.
الكلاسيكيات ليست موضة عابرة… بل أساس دائم
في مواجهة السجال حول جدوى الكلاسيكيات، يُصر بعض الأكاديميين، كروبن لين فوكس من جامعة أوكسفورد، على أن قراءة هوميروس هي شرط من شروط “الحياة الحقيقية”. فالأدب الكلاسيكي لا يمنح فقط متعة النص، بل يعرض أيضًا أصول الأسئلة التي لا تزال تؤرقنا: كيف نحكم؟ كيف نعيش؟ ما معنى أن نكون بشرًا؟
ربما تكون اللاتينية واليونانية لغات ميتة، لكن كتّابها لا يزالون أحياء — في وجداننا، وفي أزماتنا، وفي البحث المستمر عن الذات والحقيقة.
اقرأ ايضا
لن يكون هناك سلام بلا اعتراف: صرخة فلسطيني فقد أحباءه في غزة



