بريطانيا.. إلى أين؟ بين ضباب السياسة وخيارات المستقبل الأوروبي
بريطانيا بعد بريكست: بين ضياع الهوية وتحديات العودة الأوروبية

نجح رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في إعادة بناء العلاقات مع قادة الاتحاد الأوروبي، من خلال زيارات رفيعة المستوى من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني فريدريش ميرتس. لكن هذا “النجاح الدبلوماسي” لا يخفي التناقض العميق في الاستراتيجية البريطانية العالمية، بل يسلط عليه الضوء. فبريطانيا اليوم تفتقر إلى بوصلة واضحة تحدد مسارها في عالم يتغير بوتيرة سريعة.
ثلاث دوائر تتحول إلى ثلاثة أفيال
عقب الحرب العالمية الثانية، رسم ونستون تشرشل دور بريطانيا العالمي كدولة تقع في تقاطع ثلاث دوائر استراتيجية: الكومنولث، وأوروبا، والولايات المتحدة. لكن مع الزمن، تراجعت أهمية الكومنولث، وبريطانيا انسحبت من الاتحاد الأوروبي، وأصبحت علاقتها بالولايات المتحدة مهددة بسبب تحولات راديكالية في واشنطن، خاصة مع صعود دونالد ترامب. النتيجة: تحوّلت الدوائر الثلاث إلى “ثلاثة أفيال” كبرى (أمريكا، أوروبا، الصين) تحاول بريطانيا تفادي أن تُسحق بينها.
جسر مكسور أم أخلاقيات صندوق تحوط؟
لطالما حلم الساسة البريطانيون بأن تكون بلادهم “جسرًا” بين أوروبا والولايات المتحدة، لكن بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي وتعقيد العلاقة مع واشنطن، يبدو هذا الجسر أقرب إلى الوهم. بل إن بعض مؤيدي بريكست تخيلوا بريطانيا كنسخة شمالية من سنغافورة أو “سويسرا الكبرى”؛ دولة براغماتية تتربّح من الجميع، دون الالتزام بأخلاقيات أو مسؤوليات. لكن حتى هؤلاء لم يتفقوا على رؤية واحدة، ما يجعل بريطانيا بلا هوية واضحة بعد الانفصال.
بريطانيا والأزمة الأوكرانية: العودة إلى تشرشل
مع غزو بوتين لأوكرانيا، استيقظت “الغريزة التشرشلية” لدى بريطانيا، فعادت لتلعب دورًا محوريًا في الدفاع عن أوروبا جنبًا إلى جنب مع فرنسا وألمانيا وبولندا. بل إن بريطانيا وفرنسا أعلنتا تنسيق ردودهما النووية لأي تهديد خطير. ومع ذلك، تظل المفارقة قائمة: بريطانيا تدافع عن أمن أوروبا من خارج مؤسساتها، دون أن تجني من ذلك أي مكاسب اقتصادية أو سياسية حقيقية.
ثمن بريكست: التنازلات بلا مقابل
اليوم، تجد بريطانيا نفسها تدفع أثمانًا – كالتنازلات في ملف الصيد البحري لفرنسا – مقابل المشاركة في أمن أوروبا، دون أن تتمتع بمزايا السوق الأوروبية أو النفوذ داخل الاتحاد. كما أن الكثير من إنجازات لندن الدبلوماسية لا تتعدى إزالة عوائق كان يمكن تجنبها أصلًا قبل بريكست. يقول ماكرون بوضوح: “الاتحاد الأوروبي كان أقوى بكم، وأنتم كنتم أقوى بالاتحاد الأوروبي”. الخسارة الكبرى تقع على عاتق بريطانيا.
الحل المنطقي.. لكنه بعيد المنال
العودة إلى الاتحاد الأوروبي هي الخيار الاستراتيجي الوحيد المتماسك طويل الأجل، لكنها تتطلب تجرّع مرارة التراجع والقبول بشروط عضوية أقل سخاءً من السابق. المقترحات الوسطية، مثل اتحاد جمركي، تمنح بعض الفوائد، لكنها لا تضاهي القوة الاقتصادية والسياسية التي يمنحها الانضمام الكامل. لكن لا حزب كبير، حتى الليبراليين الديمقراطيين، يتبنى هذا الخيار الآن، فيما يواصل نايجل فاراج، أبرز دعاة الخروج، كسب الأرض سياسيًا.
الاتحاد الأوروبي.. غير مستعد لـ”زواج ثانٍ”
دول الاتحاد الأوروبي، من جهتها، لا تبدو متحمسة لإعادة بريطانيا إلى الطاولة. جراح بريكست لم تندمل بعد، والانفصال الأمني–الاقتصادي يبدو مريحًا أكثر لأوروبا من العودة لعلاقة معقّدة. كما أن الاتحاد لديه أولوياته ومشكلاته الخاصة التي تشغله عن أي “عودة بريطانية”.
اقرأ أيضاً روسيا وأزمة المناخ: بين الإنكار والمصالح الجيوسياسية
فن “التمخض” البريطاني: ميزة أم لعنة؟
الملاذ الوحيد لبريطانيا حاليًا هو “التمخض” أو كما تقول مجلة ألمانية: die Philosophie des Durchmuddelns – فلسفة التخبط المتواصل. ورغم كل الغموض، أثبت ستارمر مهارة في إقامة علاقات دولية ناجحة، ونجح إلى حد ما في إعادة “الجدية” إلى السياسة البريطانية. حكومته تبدو مهنية ومتزنة، وربما مملة، لكنها بعيدة عن الفوضى الترامبية في أمريكا.
بريطانيا بحاجة لبوصلة لا مهارة ملاحة فقط
رغم ما تملكه من قدرة على الصمود والإبداع والمرونة، تحتاج بريطانيا أكثر من مجرد مهارة في التعايش مع التخبط. تحتاج إلى رؤية واضحة لما تريد أن تكون عليه في العقد المقبل. وكما يقول التلمود: “إذا لم تعرف إلى أين تتجه، فأي طريق سيكون مناسبًا”. لكن في عالم تمضي فيه الأفيال بثقل وقوة، لا يكفي أن تكون خفيف الخطى. بل قد تكون بحاجة لركوب أحدها، أو أن تصبح واحدًا منها.