الوكالات

ترامب يصنع عالمه الخاص: من الانتقام السياسي إلى الهيمنة الكاملة على النظام الأمريكي

بعد مرور عام واحد فقط على فوزه الانتخابي الثاني، بدا أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاوز مرحلة القيادة التقليدية، وشرع في ما يصفه مقربوه بـ”جولة الانتقام الكبرى”. خطاباته النارية وقراراته الصادمة وتحركاته السياسية غير المسبوقة جعلت من ولايته الثانية مرحلة تحول جذري في النظام الأمريكي، داخليًا وخارجيًا. من الاعتقالات المستهدفة لخصومه السياسيين إلى إعادة تشكيل المؤسسات الحكومية والعسكرية والاقتصادية وفق مصالحه، يبدو أن ترامب يسعى لتأسيس نموذج جديد للسلطة في الولايات المتحدة. مؤيدوه يصفونه بأنه يعيد القوة إلى الدولة، بينما يرى المعارضون أن الهيمنة الشخصية والولاء الأعمى بدأت تهيمن على المؤسسات التقليدية، تاركة المجتمع الأمريكي في حالة خوف مستمر وانقسام سياسي واجتماعي متصاعد، مع أفق غامض لمستقبل الديمقراطية الأمريكية في ظل هذه التحولات العميقة.

 

الداخل الأمريكي: دولة الخوف والولاء

 

داخل الولايات المتحدة، أصبح الخوف والولاء أداة أساسية للسيطرة السياسية. ترامب أمر باعتقال شخصيات بارزة من خصومه السابقين، بينهم المدير الأسبق لمكتب التحقيقات الفيدرالي جيمس كومي، والمدعية العامة لولاية نيويورك ليتيسيا جيمس، ومستشاره السابق للأمن القومي جون بولتون، وكلهم يواجهون تهماً قد تصل إلى أكثر من 150 عامًا في السجن. المؤسسات الأمريكية اليوم تعيش في ظل تهديد مستمر، حيث يخشى كبار الضباط والموظفون الفيدراليون فقدان مناصبهم أو التعرض للملاحقة القضائية لمجرد انتقاد الرئيس. الشركات الكبرى والجامعات والهيئات القانونية باتت أيضًا تتحرك بحذر شديد، خوفًا من عواقب المعارضة، مما يحوّل الولايات المتحدة إلى بيئة سياسية واقتصادية تحكمها الولاءات الشخصية والتهديد المستمر. هذه البيئة خلقت فجوة كبيرة بين المواطن العادي والسلطة، مع شعور متزايد بأن النظام القانوني والسياسي أصبح أداة لفرض الولاء أكثر من كونه وسيلة لضمان العدالة والمساواة.

أمريكا تعيش عهدًا يحكمه الخوف والولاء بدل العدالة.

الجيش الأمريكي تحت السيطرة

 

أعاد ترامب صياغة العلاقة بين الجيش والسلطة المدنية، مما أدى إلى إزالة حدود الديمقراطية التقليدية التي كانت تحد من تدخل السلطة التنفيذية في المؤسسة العسكرية. وزير دفاعه الجديد، بيت هيجسث، أعاد تعريف “العدو” ليكون داخليًا بدلًا من خارجيًا، ما حول الجيش نحو التركيز على المهاجرين واليساريين. عدد من الجنرالات الرفيعي المستوى فقدوا مناصبهم، بمن فيهم رئيس الأركان السابق مارك ميلي، الذي أُزيلت صورته من البنتاغون وعاش تحت تهديد شخصي مستمر. إرسال الحرس الوطني إلى مدن رئيسية مثل واشنطن ولوس أنجلوس وشيكاغو أصبح أمرًا روتينيًا، بينما تعاني الروح المعنوية للجيش من أسوأ مستوياتها منذ حرب فيتنام، وفق مراقبين. المؤسسات العسكرية الأمريكية، التي كانت نموذجًا للاستقرار والانضباط، باتت اليوم أداة ضغط داخلي، مع تحوّل الجنود والضباط إلى أدوات لتحقيق الولاء السياسي بدلاً من حماية الأمن القومي، ما يثير قلق المحللين بشأن مستقبل المؤسسة العسكرية.

تحوّل الجيش الأمريكي في عهد ترامب إلى أداة ولاء سياسي بدلًا من حارس للأمن القومي.

القانون في خدمة القوة

 

القضاء الأمريكي لم يسلم من الهيمنة الترامبية، حيث أُعيد تشكيله وفق مصالح الرئيس، وتمت إقالة المستشارين القانونيين التقليديين واستبدالهم بمن يفسرون القانون لصالحه. هذا التحول جعل الاعتقالات العشوائية للمهاجرين وتجاهل أوامر المحاكم واقعًا يوميًا. ثلاثة من تسعة قضاة في المحكمة العليا تم تعيينهم من قبله، مع ميل غالبية القضاة الستة الآخرون لدعم قراراته، ما جعل المحكمة العليا آخر حصن شبه خاضع لإرادته. وبهذا، تحول القانون من وسيلة لضمان العدالة إلى أداة للهيمنة السياسية، حيث أصبح التعبير عن المعارضة مخاطرة شخصية ومهنية عالية. البيئة القانونية والسياسية المتوترة تجعل من الدفاع عن الحقوق الأساسية تحديًا صعبًا، مع شعور متزايد بين المحامين والحقوقيين أن النظام القضائي فقد جزءًا كبيرًا من استقلاليته وقدرته على حماية الديمقراطية.

 

“رأسمالية الولاء”: المال والسياسة في قبضة العائلة

 

لم تقتصر سيطرة ترامب على السياسة فحسب، بل امتدت إلى الاقتصاد العالمي، حيث أصبح المال أداة للهيمنة والولاء. إطلاق عملته الرقمية $TRUMP أدى إلى تحقيق أرباح فاقت المليار دولار خلال عام واحد، فيما أدارت العائلة شركات تداول العملات الرقمية التي أصبحت وسيلة للحفاظ على النفوذ الدولي. استثمارات من الإمارات وقطر وغيرها من الدول سلطت الضوء على العلاقة بين المال والسلطة، فيما يلاحظ حلفاء أوروبا تراجع تأثيرهم، مع شعور متزايد بالهامشية في القرارات الأمريكية. الاقتصاد الأمريكي تحول إلى أداة للابتزاز السياسي، حيث ترتبط التراخيص والعقود بالولاء الشخصي للرئيس، بينما أصبح رجال الأعمال يتوافدون إلى واشنطن لتأمين مصالحهم، في مشهد أشبه بممالك استبدادية، مما يعكس تقاطع المال بالسياسة بشكل غير مسبوق في تاريخ الولايات المتحدة الحديث.

عملة ترامب الرقمية أصبحت رمزًا لتحالف المال بالسلطة وتعزيز نفوذه العالمي.

انهيار الأعمدة الديمقراطية

 

المشهد السياسي الحالي يختلف جذريًا عن الماضي، حيث تحولت المؤسسات التي كانت تضمن توازن السلطات إلى أدوات للسيطرة. الكونغرس أصبح أشبه بمجلس صوري، والمحكمة العليا تتجنب المواجهة، والإعلام العام شبه مجمّد. القوانين التي كانت تحمي الديمقراطية تحولت إلى أدوات بيد السلطة، تُستخدم ضد الخصوم وفق المصلحة. الحريات الشخصية تعرضت للقيود، مع تصاعد حملات الاعتقالات والتفتيش، وخلق بيئة عامة من الخوف، بحيث أصبح التعبير عن الرأي العلني محفوفًا بالمخاطر. المحامون الحقوقيون يؤكدون أن القليل فقط مازال قادرًا على مواجهة هذا التحول، فيما يعكس السلوك العام للمؤسسات الأمريكية الانقسام الحاد والشلل المستمر في السياسات العامة، مما يجعل الديمقراطية في الولايات المتحدة على المحك لأول مرة منذ عقود.

 

المعارضة بين الصمت والمقاومة

 

عدد قليل من الأصوات ما زالت ترفع المعارضات، من بينها المحامي أبي لويل والصحفي مايك أبراموفيتز، بينما ترى نانسي بيلوسي أن المعركة من أجل الديمقراطية يجب أن تبدأ من الشعب وليس المؤسسات. هذا الصمت العام للمؤسسات يعكس حالة هيمنة كاملة للرئيس، بينما يظل المواطنون العاديون النقطة الأخيرة في الحفاظ على القيم الديمقراطية. الضغط المستمر على الإعلام، الاقتصاد، والقضاء جعل كل معارض أمام خيار صعب: الصمت أو مواجهة مخاطر كبيرة. المشهد السياسي اليوم أصبح أقرب إلى الممالك الاستبدادية، حيث القانون والسلطة والمال جميعها في قبضة الفرد الواحد، فيما يبقى المجتمع المدني والمواطنون العاديون آخر خطوط الدفاع عن الحقوق والحريات.

 

عالم جديد على الطريقة الترامبية

 

في السياسة الخارجية، يعيد ترامب رسم التحالفات، مبتعدًا عن الديمقراطيات التقليدية ومتقربًا من الأنظمة السلطوية. في الداخل، أصبح نموذج “القائد الذي لا يُسأل” سائدًا، مع سيطرة شبه كاملة على الجيش، القضاء، الاقتصاد، والمؤسسات الحكومية. مراقبون يصفون أمريكا اليوم بأنها حلبة مصارعة يديرها ترامب، حيث السلطة والقانون والمكافأة كلها في يده. الهيمنة الترامبية تمثل بداية حقبة جديدة من الحكم الشخصي، حيث المعارضون خطر والقانون أداة والديمقراطية ذكرى تتلاشى تدريجيًا، فيما يواصل المجتمع الأمريكي التكيف مع واقع جديد، في ظل مؤسسات مشلولة وسياسة تعتمد على الولاء والخوف بشكل مطلق، مع تزايد التساؤلات حول مستقبل القيم الديمقراطية في أكبر دولة في العالم.

اقرأ أيضاً

كولومبيا تطالب واشنطن بوقف ضربات زوارق تهريب المخدرات: «هذا قتل»

رحمة حسين

رحمة حسين صحفية ومترجمة لغة فرنسية، تخرجت في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية وآدابها بجامعة عين شمس. تعمل في مجال الصحافة الثقافية والاجتماعية، إلى جانب عملها في الترجمة من الفرنسية إلى العربية. تهتم بقضايا حقوق الإنسان وحقوق المرأة، ولها كتابات مؤثرة في هذا المجال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى