ترامب يغير قواعد اللعبة مع بوتين: حين تتحول المجاملة إلى حسم عسكري
ترامب واصفًا بوتين على "تروث سوشيال": "مجنون يقتل الناس بلا سبب"

رغم انطلاقة تبدو ودية في العلاقات بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين خلال الولاية الثانية للأول، فإن التصعيد الروسي غير المبرر في أوكرانيا، والدعم المتزايد من الصين وإيران وكوريا الشمالية للكرملين، دفع إدارة ترامب إلى مراجعة حساباتها. الغضب الأمريكي لم يعد خفيًا، فالرئيس الذي اتُّهم يومًا بالتراخي أمام موسكو، بات اليوم يلمّح إلى توجه جاد لكبح جماح العدوان الروسي بقوة الردع، لا بالمجاملات الدبلوماسية. هذا التحول لا يخص أوكرانيا فقط، بل يعكس أيضًا الصراع على النفوذ العالمي بين واشنطن ومحور بكين–موسكو–طهران، وما يعنيه ذلك من ارتدادات في أوروبا والشرق الأوسط وآسيا.
ست مكالمات بلا مقابل: حسابات ترامب في اختبار بوتين
منذ يناير، أجرى ترامب ست مكالمات مع بوتين—أكثر من أي زعيم آخر. وخلال هذه الشهور، سعت إدارته لتجميد مساعدات السلاح والمعلومات الاستخبارية لأوكرانيا، في محاولة لفتح نافذة للحوار. لكن موسكو فهمت هذا التريث على أنه ضعف، وردت عليه بتكثيف القصف العشوائي للأحياء السكنية. في مايو، عبّر ترامب عن غضبه بحدة على “تروث سوشال”، واصفًا بوتين بأنه “مجنون يقتل الناس بلا سبب”، قبل أن يعود في يوليو ويؤكد: “يبدو أنه لا يريد التوقف عن القتل.” إنها لحظة نادرة يظهر فيها ترامب بهذا الوضوح ضد بوتين، ما يشير إلى تحول فعلي في موقف واشنطن.
تحالف الخصوم: بكين وطهران وبيونغ يانغ في صف روسيا
في الوقت الذي تصاعد فيه الغضب الأمريكي، كان محور بكين–موسكو–طهران يثبت تماسكه. وزير الخارجية الصيني وانغ يي أبلغ نظيره الأوروبي بأن هزيمة روسيا تعني تركيز واشنطن بالكامل على الصين. وزير خارجية أوكرانيا أشار بدوره إلى تورط صريح من كوريا الشمالية (بقوات)، إيران (بأسلحة)، والصين (بقدرات صناعية) في دعم موسكو. المعركة في أوكرانيا لم تعد محلية، بل باتت جبهة اختبار لتوازنات القوى العالمية، وتحديًا مباشرًا للنظام الدولي الذي تقوده واشنطن.
الرسائل الأمريكية تتبدل: من “تفاهمات” إلى تهديدات ضمنية
في البداية، حاول بوتين مغازلة ترامب عبر وعود بقطع علاقاته مع الصين وتعزيز التجارة مع أمريكا. لكن هذه الإشارات كانت خدعة، هدفها كسب الوقت لتمكين روسيا ميدانيًا. ترامب، المعروف بلغة “الصفقات”، عبّر عن خيبته قائلًا: “نتلقى الكثير من الهراء من بوتين، إنه لطيف معنا، لكن كل ذلك بلا قيمة.” حتى نائبه جيه دي فانس علّق قائلاً إن بوتين يطلب “أكثر من اللازم” في مفاوضات السلام. الرسالة هنا واضحة: الإدارة الأمريكية بدأت تفقد صبرها، والاستجابة قد تكون عسكرية.
سياسة “السلام بالقوة”: ترامب يتبنى نبرة مغايرة مع الحلفاء
لطالما اشتكى الأوروبيون من أن ترامب يتعامل بخشونة مع الحلفاء، وبسخاء مع الخصوم. لكن هذا التوصيف يغفل واقعًا مهمًا: دول الخطوط الأمامية مثل بولندا ودول البلطيق وفنلندا لديها خبرة عميقة مع روسيا، وهي من تطالب اليوم برد صارم. ترامب يبدو أقرب لهذه الرؤية الآن، بعد أن ثبت أن لغة “الليونة” لم تمنع بوتين من التصعيد. وفقًا لهذه المعادلة، السلام لا يُنتزع عبر المجاملات، بل عبر القوة الرادعة.
بوتين يراهن على تقلبات ترامب… وقد يخسر الرهان
داخل الكرملين، تُفسر تصريحات ترامب الغاضبة باعتبارها انفعالًا مؤقتًا أو مناورة تفاوضية. المسؤولون الروس يرون في ترامب شخصًا يغير رأيه باستمرار. لكن هذه القراءة قد تكون خطأً مكلفًا. فترامب، رغم تقلباته، معروف بقراراته الحاسمة حين يشعر بالخيانة أو الاستغلال. وسبق أن فاجأ خصومه بضربات غير متوقعة، كما فعل مع إيران في قصف مطار بغداد، أو مع الصين في فرض الرسوم الجمركية المفاجئة.
أوروبا في المنتصف: بين الحذر والضغوط الأمريكية
في الوقت الذي تتأهب فيه واشنطن لاتخاذ مواقف أكثر صرامة، تجد أوروبا نفسها في وضع حساس. بعض العواصم الكبرى، مثل باريس وبرلين، لا تزال تفضل التهدئة، بينما تضغط دول شرقية أوروبية من أجل مواقف أكثر حزمًا. الإدارة الأمريكية الحالية قد تفرض على الأوروبيين خيارًا صعبًا: إما الانضمام إلى حملة لردع روسيا، أو تحمّل تبعات استراتيجية أمريكية أحادية لا تضع بروكسل في حساباتها.
ربط الجبهات: من أوكرانيا إلى غزة إلى بحر الصين الجنوبي
المشهد الجيوسياسي الحالي يكشف عن تداخل غير مسبوق بين ملفات الأمن في أوروبا، وأزمات الشرق الأوسط، وتصاعد التوتر في بحر الصين الجنوبي. حلفاء روسيا، سواء في طهران أو بيونغ يانغ أو دمشق، يستفيدون من غطاء موسكو في التمادي بتصرفاتهم. في هذا السياق، تعتبر واشنطن أن كبح روسيا ضرورة لفرملة تمدد خصومها في ملفات إقليمية أخرى. ترامب وإن بدا “منعزلًا”، إلا أن سياسته الخارجية باتت أكثر ترابطًا مما تبدو عليه في ظاهرها.
هل يبدأ “التصحيح” الأمريكي من أوكرانيا؟
الأسابيع القادمة قد تشهد تغيرًا دراميًا في السياسة الأمريكية تجاه أوكرانيا. التراخي السابق قد يُستبدل بتدفق جديد للأسلحة والاستخبارات، وربما فرض عقوبات أكثر إيلامًا على روسيا وحلفائها. فترامب، الذي بدأ ولايته الثانية بمقاربة تصالحية، يبدو اليوم أقرب إلى نموذج “رونالد ريغان الجديد”: رئيس مستعد لاستخدام كل أدوات الردع لإعادة رسم خريطة القوة العالمية.