الاقتصاد

فايننشال تايمز: هل ينبغي للصين تبنّي سياسة الفائدة الصفرية؟

في الوقت الذي تواصل فيه الصين مواجهة تحديات اقتصادية معقدة، من تباطؤ النمو الاسمي إلى التضخم السلبي وتباطؤ الاستهلاك، يدور في أروقة صنع القرار ببكين نقاش ساخن حول مدى جدوى الانتقال إلى سياسة سعر الفائدة الصفرية. وبينما تشير الأرقام إلى أن أسعار الفائدة الفعلية قد تكون بالفعل “صفرية” من الناحية الواقعية، لا تزال النخبة السياسية والاقتصادية منقسمة بشأن جدوى هذه الخطوة ومخاطرها على المدى البعيد.

نمو قوي.. لكنه “اسميًا” ضعيف

 

أظهرت بيانات النمو للربع الثاني من عام 2025 مفارقة لافتة: فقد بلغ معدل النمو الحقيقي 5.2%، وهو أداء قوي يُظهر حيوية في قطاعات الصناعة والتصدير. لكن في المقابل، لم يتجاوز النمو الاسمي — وهو ما يشعر به المواطنون في الأجور وترصده الشركات في الإيرادات — نسبة 3.9% فقط. وتلك الفجوة مردّها إلى انخفاض الأسعار وتفشي حالة من التضخم السلبي، وهو ما يجعل سعر الفائدة الحقيقي مرتفعًا بصورة قد تخنق النشاط الاقتصادي.

نقاش محتدم داخل الدوائر السياسية

يقول اقتصاديون إن الصين تقف أمام مفترق طرق شائك. فبينما تسعى الحكومة لتحفيز الاقتصاد ومواجهة أزمة العقارات المتمادية منذ 2020، تظل أسعار الفائدة أداة حساسة للغاية. وتؤكد هيلين كياو، كبيرة اقتصاديي الصين لدى “بنك أوف أمريكا”، أن التوافق السياسي حول اعتماد سعر فائدة صفري لا يزال غائبًا، رغم أن السوق والمستثمرين يلاحظون بوضوح أن الفائدة تقترب فعليًا من هذا المستوى.

شبح التجارب الغربية واليابانية

تحوم فوق النقاش مقارنتان مرعبتان لصناع القرار في بكين. الأولى تجربة الولايات المتحدة وأوروبا بعد أزمة 2008، حين أدت سياسة الفائدة الصفرية إلى تضخم الأصول وخلق فقاعات مالية. والثانية هي تجربة اليابان، التي غرقت لعقود في ركود طويل بعد انفجار فقاعة العقارات في تسعينيات القرن الماضي. وفي ظل أزمة عقارية محلية مستمرة منذ خمس سنوات، تخشى بكين تكرار السيناريو الياباني بكل تداعياته السياسية والاجتماعية.

أصوات تطالب بخفض سريع للفائدة

من بين الداعين إلى تخفيض الفائدة جذريًا، خبراء يرون أن ذلك سيمنح الحكومات المحلية المثقلة بالديون فرصة لإعادة التمويل، ويفتح الباب أمام توسع مالي أكبر. ويقول جين ما، رئيس وحدة أبحاث الصين في “معهد التمويل الدولي”، إن هناك مجالًا لخفض إضافي لا يقل عن 0.4 نقطة مئوية، معتبرا أن الوصول إلى فائدة صفرية يجب ألا يكون أمرًا “مستبعدًا نظريًا”.

معارضة شرسة من قطاع البنوك

في المعسكر المقابل، يبرز القلق من أثر الفائدة المنخفضة على البنوك، التي تعتمد على هامش الفائدة — أي الفرق بين معدل الإقراض والإيداع — لتحقيق الأرباح. ومع تراجع هذا الهامش إلى 1.48% لدى أكبر ستة بنوك حكومية، وهو أدنى مستوى على الإطلاق، يلوح خطر كبير يتمثل في تآكل الربحية، خاصة في ظل تصاعد مخاطر الديون المعدومة في قطاع العقارات. أحد المستشارين الحكوميين تساءل بصراحة: “كيف سنواجه ملايين المودعين الذين يعيشون على فوائد مدخراتهم؟ هذا ليس سؤالًا اقتصاديًا فحسب، بل سياسي بامتياز”.

هل الفائدة الصفرية موجودة بالفعل؟

بعض الاقتصاديين يرون أن الصين تطبق بالفعل “سياسة صفرية بحكم الأمر الواقع”، حتى إن لم تعلن ذلك رسميًا. ويؤكد تشين لونغ، المؤسس المشارك لشركة الاستشارات “بلينوم” في بكين، أن بيئة الفائدة الحالية للأسر والشركات تشبه إلى حد كبير تلك التي كانت سائدة في الولايات المتحدة خلال فترة سياسة الفائدة الصفرية. ومع استمرار خفض معدلات الإقراض الموجهة من البنك المركزي، بات التأثير الهامشي لأي تخفيض جديد محدودًا.

مخاوف من تشويه الاقتصاد وزيادة الاختلالات

يشير معارضو الفائدة الصفرية إلى أنها قد تؤدي إلى تفاقم مشاكل هيكلية، مثل فائض العرض وضعف الطلب. وتقول تشي شياوجيا، كبيرة اقتصاديي الصين لدى “كريديه أجريكول”، إن خفض الفائدة قد يحفز الاستثمار، لكنه لن يفعل الشيء ذاته مع الاستهلاك، ما يفاقم اختلال التوازن القائم أصلًا. وتضيف أن الاقتصاد الصيني يعاني من ضعف في الاستهلاك المحلي و”تخمة” في الطاقة الإنتاجية، ما يجعل من الفائدة الصفرية وصفة محفوفة بالمخاطر.

المدخرون يتسابقون لتأمين عوائد أعلى

في ظل التوقعات بخفض إضافي للفائدة، اندفع المواطنون نحو تثبيت مدخراتهم في ودائع طويلة الأجل، هربًا من التراجع المستمر في العوائد. فبينما تمنح الحسابات الجارية في معظم البنوك الصينية عائدًا لا يتجاوز 0.05%، لا توفر الودائع السنوية أكثر من 2%. ووصل إجمالي الودائع الأسرية إلى مستوى غير مسبوق بلغ 147 تريليون يوان (نحو 20 تريليون دولار) في يونيو، ما يعكس أزمة ثقة أعمق في مستقبل الاقتصاد.

البنك المركزي يستعد للأسوأ بصمت

ورغم عدم اتخاذ قرار رسمي بعد، كشفت مصادر أن بنك الشعب الصيني بدأ فعليًا في إعداد سيناريوهات للتعامل مع بيئة طويلة الأمد ذات فائدة منخفضة. وذكرت تقارير أن البنك يتشاور حاليًا مع مؤسسات أوروبية لاكتساب خبرات في إدارة مثل هذا الواقع النقدي، ما يشير إلى أن بكين لا تستبعد خيار الفائدة الصفرية، ولكنها تتحرك بحذر بالغ.

القرار الصعب: هل تتأخر الصين أكثر؟

مع تصاعد الأصوات المطالبة بتدخل سياسي جريء، يحذر خبراء من أن أي تردد قد يؤدي إلى غرق الاقتصاد أكثر في دوامة الانكماش السعري. يقول لاري هو، كبير اقتصاديي الصين في “ماكواري” بهونغ كونغ، إن الهروب من هذا المسار الانكماشي يتطلب “دفعة سياسية قوية وسريعة”. وفي ظل تأجيل القرار، تتساءل الأسواق والمستثمرون: هل تستطيع الصين تحمّل تكلفة التأخير؟ وهل تملك رفاهية الانتظار بينما تتزايد الضغوط الاقتصادية من الداخل والخارج؟

اقرأ أيضا

باستثمارات 100 مليون دولار .. تفاصيل مشروع تحويل حق الانتفاع لقطعة أرض لشركة تيدا 

نوران الرجال

نوران الرجال باحثة اقتصادية وكاتبة صحفية متخصصة في شؤون النقل البحري والاقتصاد البحري، وتشغل عضوية لجنة النقل البحري بالجمعية العمومية العلمية للنقل. كما تتولى منصب المدير العام لمركز العربي للأبحاث البحرية والاستراتيجية، حيث تسهم في صياغة الرؤى وتقديم الدراسات الداعمة لتطوير قطاع النقل البحري في المنطقة العربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى