بين “أنتِ كثيرة” و”هو غير كافٍ”… حكاية نساء يُطلب منهن الاختفاء
لماذا يُتوقع من النساء أن "يصغرن ويصمتن"؟

“أعتقد أنني أكون أحيانًا كثيرة جدًا”، قالتها صديقة للكاتبة البريطانية لوسي نايت، بينما كانت تجلس مع مجموعة من النساء يتناقشن حول موعد غرامي مرتقب. هذه العبارة، التي تبدو مألوفة في أوساط النساء، ليست استثناءً؛ بل تعبير عن نمط اجتماعي عميق يربط أنوثة المرأة برغبتها في تقليص صوتها، حضورها، وحتى طموحها، لتناسب الصورة التقليدية لما يُفترض أن تكون عليه المرأة “الجذابة” أو “المقبولة”.
معايير أنثوية عتيقة لا تزال تحكمنا
الكاتبة إيمي كي، في مذكراتها “ترتيبات في الأزرق”، تربط بين هذه المخاوف الأنثوية وما تسميه بـ”المثل الأنثوية العتيقة”، التي تُقنع النساء بأن احتواء أنفسهن وجعل شخصياتهن أكثر “ترتيبًا” هو السبيل الوحيد للقبول العاطفي والمهني والاجتماعي. هذا الاحتواء لا يشمل فقط السلوك، بل حتى “المساحة الجسدية” التي تشغلها المرأة، فالمطلوب دائمًا هو أن تكون أقل: في الحجم، في الصوت، في الرأي، وفي الطموح.
هل المطلوب هو أن تكون المرأة خفيفة.. وغير مرئية؟
تقول الكوميدية البريطانية هيلين باور إنها لطالما شعرت منذ طفولتها بأنها “كثيرة جدًا”، ببساطة لأنها كانت فتاة كبيرة الحجم وبصوت مرتفع. وعندما كانت أختها تعاني من الصمت الانتقائي، ألقى البعض باللوم عليها: “ربما لأنها (هيلين) تتكلم كثيرًا!”. هذه الرواسب النفسية، كما تؤكد المعالجة النفسية لوسي فولر، تؤدي إلى شعور دائم بالخجل، وتترسخ لدى الفتيات منذ سن مبكر، لتتحول لاحقًا إلى مخاوف مزمنة من “أخذ مساحة أكبر مما ينبغي”.
الرجال مسموح لهم بالتضخم… والنساء بالتلاشي
تشير فولر إلى أن أغلب من يأتون للعلاج النفسي بسبب هذا النوع من المخاوف هم النساء. في المقابل، تقول: “الرجال يشعرون براحة أكبر في التمركز حول ذواتهم، لأن الثقافة تسندهم ولا تضع عليهم هذا النوع من القيود”. ببساطة، أن تكون رجلاً كثيرًا هو امتياز. أما أن تكوني امرأة كثيرة، فهو تهمة.
“النساء الكثيرات” في المواعدة والعمل: بين الرفض والاحتواء المشروط
تلاحظ الكاتبة أن الرجال لا يجدون مانعًا في إقامة علاقات عابرة مع نساء “كثيرات”، لكنهم نادرًا ما يختارون الارتباط بهن. تقول بوبي جاي، مؤسسة بودكاست “Brown Girls Do It Too”: “الرجال يريدون امرأة تعتني بهم ولا تتحداهم”. وتضيف، بمرارة ساخرة: “دعهم يقعون في حبك أولاً، ثم أظهري لهم حقيقتك”.
الإعلام يحب “المرأة الفوضوية”.. بشرط أن تكون جذابة بما يكفي
تتحدث إيمي كي عن نموذج “الفتاة الحالمة الفوضوية” أو ما يُعرف بـ”المانيك بيكسي”، وهي شخصية متكررة في الأفلام: مرحة، غير تقليدية، لكنها دائمًا نحيفة، بيضاء، ومحبوبة. هذه النوعية من “الزيادة” تُقبل فقط حين تقترن بمواصفات جمالية مرغوبة. أما النساء “الكثيرات” الخارجات عن هذا القالب، فلا تُغتفر فوضاهن، بل يُنبذن.
النساء الملونات والنساء ذوات الإعاقة: “كثيرات” بحكم الهوية
توضح توبى غرين-أدينوو، راقصة على كرسي متحرك ومؤسسة شبكة “قوة ذوي الإعاقة”، أن مجرد وجودها كامرأة سمراء على كرسي متحرك يجعل البعض يصنفها ضمن خانة “الكثير جدًا” دون أن تنبس ببنت شفة. مجرد طلبها لتسهيلات الوصول يُقابل بتعليقات مثل “ها هي قادمة بالمشاكل”، ما يدفعها أحيانًا إلى كبت ذاتها خوفًا من التهميش المهني.
“الكثرة” كقيمة مقاومة… لا عيب
في مقابل هذا الضغط، هناك نساء اخترن أن يرفعن شعار: “أنا كثيرة.. وما المشكلة؟”. تقول ديبورا فرانسيس-وايت، صاحبة بودكاست “النسوية المذنبة”: “حقوق النساء تتأرجح حول العالم، وسأكون كما أحتاج أن أكون، بل وأكثر”. بالنسبة لها، “الكثرة” تعني الحضور القوي، والتأثير، والتحدي، وهي تكلفة ضرورية للنجاح والتغيير.
وتضيف: “المهارة هي في معرفة متى تصعدين صوتك ومتى تخفضينه، لا في إلغائه”.
ليست مشكلتكِ بل مشكلتهم: أعدي تقييم “المعيار”
تقول فولر إن النساء غالبًا ما يُرجعن أي تفاعل اجتماعي فاشل إلى عيب في شخصياتهن. “لكن الحقيقة أن من يراكِ كثيرة جدًا في مجموعة ما، قد يراكِ مثالية في مجموعة أخرى”. المسألة ببساطة ليست “أنتِ كثيرة”، بل “هم غير كافين”.
من “كثيرة جدًا” إلى “مناسبة تمامًا“
في ختام حديثها، تروي لوسي نايت كيف ردت إحدى صديقاتها على القلق الذي أبدته صديقتها حول موعدها الغرامي:
“النساء دائمًا يقلن لي قبل المواعدة: أنا كثيرة جدًا… لكن ماذا لو لم تكوني كذلك؟ ماذا لو كان الرجال هم من لا يكفون؟”
سؤال بسيط، لكنه قد يكون مفتاحًا لتحرر طويل الأمد.