جيل الإيجار في بودابست: كيف حُرم شباب العاصمة المجرية من حلم التملك؟
جيل الإيجار في بودابست

قبل أقل من عقدين، لم يكن السكن موضوعًا يشغل بال الشباب في العاصمة المجرية. فبينما كان طالب الجامعة في 2007 قادرًا على استئجار غرفة في قلب بودابست مقابل ما لا يزيد عن 100 جنيه إسترليني شهريًا، أصبح من المعتاد اليوم دفع ضعف ذلك المبلغ لنفس الغرفة – بل وأكثر. وبينما تتصاعد الأسعار بلا هوادة، يجد الشباب أنفسهم مُحاصرين بين حلم التملك المستحيل وواقع الإيجار المتقلّب.
قفزات غير مسبوقة في الأسعار
تشير بيانات الاتحاد الأوروبي إلى أن المجر سجلت أعلى زيادة في مؤشر أسعار السكن بين دول التكتل بين عامي 2010 و2024، بنسبة وصلت إلى 234%، مقابل متوسط أوروبي يبلغ 55.4% فقط. في المقابل، ارتفع متوسط الدخل الفردي في البلاد بنسبة 86% فقط خلال العقد نفسه، ما فاقم الفجوة بين الدخل وتكلفة السكن، خاصة في العاصمة.
والمثير أن هذه الطفرة السعرية لم تُغذَّ من الاستثمارات الأجنبية أو الشركات العقارية الكبرى، كما هو الحال في عواصم أوروبية أخرى، بل جاءت بفعل تدفق أفراد الطبقة الوسطى والعليا من المجريين نحو سوق العقارات، بحثًا عن ملاذ آمن لأموالهم في ظل عدم اليقين الاقتصادي.
سياسة حكومية تتجاهل الفقراء وتُمجّد التملّك
منذ وصول حزب فيديس اليميني بقيادة فيكتور أوربان إلى الحكم في 2010، ركزت الحكومة على دعم شراء المنازل للأسر المتوسطة الدخل، متجاهلة تمامًا دعم الفئات الفقيرة، التي لم تستفد إلا من نحو 10% من الإنفاق الحكومي المرتبط بالإسكان. كما تقلصت حصة السكن العام من 20% من السوق العقارية في 1990 إلى نحو 2% فقط اليوم.
ويعود ذلك إلى عقيدة أيديولوجية تبناها أوربان شخصيًا حين صرح عام 2014: “المنزل هو القلعة… أنا أؤمن بملكية المنزل والأسرة”. هكذا تم تصوير سياسات الإسكان العامة في الحقبة الاشتراكية كتشوّه تاريخي، وجرى تحويل الحلم الجماعي إلى وهم فردي بالتملك، رغم أن الواقع بات ينقض هذا الحلم كل يوم.
جيل الإيجار… يتكوّن بصمت
في عام 2022، كان نحو 35% من الشباب في بودابست يعيشون في مساكن مؤجرة، فيما ارتفعت نسبة الأسر المؤجرة في العاصمة من 12.7% إلى 17.5% خلال عقد واحد فقط. ومع ذلك، تواصل الحكومة تمجيد التملك الفردي، متجاهلة تحوّلات الواقع والسوق، التي تدفع جيلًا كاملًا نحو الإيجار، سواء أراد ذلك أم لا.
ويشير استطلاع حديث إلى أن 38% من البالغين في بودابست سيختارون الإيجار لو توفرت خيارات ميسورة وآمنة. وهذا ما يسلّط الضوء على الحاجة الملحّة لإعادة تصور نظام الإسكان في المجر، بما يتجاوز الهوس العقائدي بالتملك.
مبادرات محلية تقاوم المدّ السياسي
رغم الإهمال الحكومي، بدأت تظهر مبادرات محلية طموحة. فقد أطلقت بلدية بودابست وكالة للإسكان الاجتماعي، تعمل على تحويل الشقق الشاغرة (16.7% من مساكن المدينة فارغة في 2022) إلى وحدات إيجارية بأسعار معقولة. كذلك تمكنت البلدية، عبر ثغرة قانونية، من شراء أرض صناعية كبيرة تخطط لتحويلها إلى مشروع سكني مستدام يضم آلاف الوحدات بأسعار مناسبة.
لكن هذه المبادرات تواجه مقاومة مستمرة من الحكومة المركزية التي تخوض صراعًا سياسيًا مع رئيس البلدية المعارض المنتمي للتيار الأخضر.
نماذج تعاونية: الحل من القاعدة إلى القمة
إلى جانب الجهود البلدية، ظهرت مبادرات أهلية ملهمة، مثل “بيت زوغلو التعاوني”، الذي أنشأته مجموعة نشطاء عام 2018 على النموذج الألماني المعروف باسم Mietshäuser Syndikat. المشروع يعمل وفق مبادئ تعاونية، ويوفر إيجارات منخفضة لسبعة مستأجرين، دون دعم حكومي أو تمويل مصرفي، بل من خلال قروض مباشرة من الأصدقاء والداعمين.
هذه المشاريع بدأت تتكاثر وتبني شبكات إقليمية، مثل مبادرة “مويا” (أي: البناء الذاتي بالمساعدة المتبادلة) المستوحاة من تجارب البلقان. ورغم محدودية هذه التجارب، فإنها تفتح أبوابًا جديدة أمام جيل يشعر أنه مستبعد من حق أساسي: المسكن اللائق.
نحو رؤية بديلة: هل تتدخل أوروبا؟
في ظل الانسداد السياسي الداخلي، يراهن بعض الفاعلين المحليين على دور أوروبي أكثر فاعلية. فالاتحاد الأوروبي، كما يرى كثيرون، مطالب بتوجيه تمويل مباشر لدعم الإسكان الميسر في المجر وشرق أوروبا، لموازنة الفجوة التاريخية التي صنعتها عقود من الخصخصة والإهمال.
لكن قبل ذلك، لا بد من تحوّل في الرؤية السياسية الحاكمة. فالمستقبل السكني لشباب بودابست لن يُنقَذ بشعارات الملكية، بل بسياسات واقعية تعترف بأن “القلاع الخاصة” لم تعد تكفي لتأمين الحق في السكن الكريم