صحف وتقارير

عطر بالنعناع..فيلم مصري شاعري عن الثورة المجهضه واشباح الهزيمه

"عطر بالنعناع" لفيلم مصري شاعري يمزج بين الواقعية السحرية والتأمل الفلسفي.

يأتي فيلم “عطر بالنعناع” للمخرج المصري محمد حمدي كعمل سينمائي أول يحمل نبرة تأملية غاضبة ومُرهقة، أشبه بحلم مخدر يدور في قلب أطلال ثورة ضائعة. إنه فيلم “ستانر” (stoner movie) بطابع مصري، لكن دون الكوميديا المعتادة لهذا النوع؛ هنا، الهروب بالحشيش ليس وسيلة للضحك، بل محاولة لتخدير الذاكرة والهرب من الواقع الموجِع.

 

شخصيات تائهة في عوالم أشبه بالبرزخ

في مركز الحكاية يقف بهاء (علاء الدين حمادة)، طبيب مُغترب داخليًا، تمنحه امرأة شكوى غريبة عن ظهور ابنها المتوفى؛ فيعطيها ببساطة سيجارة محشوة بالحشيش. يُرافقه في هذا العالم الضبابي صديقه مهدي (مهدي أبو بهات)، في تجوال شبه عبثي داخل شقق متهالكة كأنها خارج الزمن، يلاحقهما الظل ويلاحقانهما خيبات الماضي والحب الضائع والرفاق المنسيين.

 

الأشباح هنا ليست فقط من ماتوا فعليًا، بل من خسروا ثورتهم وأصواتهم. يظهر تاجر المخدرات كناشط سابق في “البلاك بلوك”، وآخر يحكي عن 171 رصاصة أنهت حياته. كل من في الفيلم ينتحب على شيءٍ لم يكتمل.

 

شعرية الحوار وجماليات الصورة

ينتمي الفيلم إلى تقاليد الشعر العربي الشفهي، لا سيما في حواراته الطويلة، المليئة بالتأمل والسخرية. مهدي يقول لبهاء: “كلّم الجواب”، في إشارة إلى رسالة غارقة بالماء من حبيبته السابقة، تبلل ملابسه حتى يظنه الناس قد تبول على نفسه! سخرية مريرة في قلب مَشاهد كئيبة.

 

لكن قوة الفيلم لا تكمن فقط في كلماته، بل في صورته السينمائية الآسرة. حمدي، الحاصل على جائزة إيمي عن عمله في تصوير الوثائقي الشهير “الميدان”، يوظف الضوء والظل ببراعة، في لقطات مشبعة بالتباين الحاد (الكيرسكورو) تذكر بأسلوب أنطونيوني، خاصة في لقطات التتبع البصرية الهادئة والموسيقى المحيطة.

 

الجمود كرسالة.. والنعناع كرمز مزدوج

ورغم أن وتيرة الفيلم البطيئة قد تُرهق البعض، إلا أن هذا السكون المتعمد يعكس جمود مجتمع محاصر بفقدان الأمل، محكوم بالقمع، ومأهول بالأشباح لا بالبشر.

 

يبقى “النعناع” – العنوان ورمز الفيلم – لغزًا بصريًا غريبًا: ينمو من رأس مهدي المجعد، ويتسرب من الجراح، وكأنه تمثيل لزحف الطبيعة على ما تبقى من الحضارة. قد يكون رمزًا للانهيار، أو بداية تجدد سري من بين الركام، خصوصًا مع الخاتمة التي توحي ببصيص أمل.

 

بداية واعدة لمخرج يتمرد على المألوف

عطر بالنعناع قد لا يُرضي الجميع، لكنه ينجح في تقديم رؤية سينمائية مغايرة وجريئة من قلب القاهرة المكسورة. محمد حمدي، رغم بطء الإيقاع وبعض اللحظات المكررة، يقدم عملاً يعبر عن جيل ضائع لكنه ما زال قادرًا على التعبير – وإن كان ببطء، وإن كان تحت تأثير الحشيش.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى