صحف وتقارير

زحف البنفسج الصامت:كيف تحولت آلاف الكيلومترات من بريطانيا إلي صحاري خضراء ميته ؟

"زحف البنفسج الصامت: كارثة بيئية صامتة في الأراضي البريطانية"

بينما يتحدث العالم عن آثار التغير المناخي وتدهور البيئات الطبيعية، تتسلل كارثة بيئية صامتة عبر الأراضي البريطانية دون أن تلفت الانتباه العام: زحف نوع نباتي واحد – يُعرف بـ”عشب المستنقعات الأرجواني” أو Molinia caerulea – على مساحات شاسعة من الأراضي، محولًا إياها إلى مناطق عقيمة تفتقر إلى الحياة البرية.

 

صحارى من نوع آخر

قد يظن القارئ أن الحديث هنا عن كثبان رملية أو أراضٍ متشققة وجافة، لكن الواقع أكثر تعقيدًا. ما يصفه الخبراء بـ”الصحارى الأرضية” ليس بالضرورة أن يكون جافًا؛ بل هي مناطق رطبة تخلو من التنوع البيولوجي وتفتقد إلى الحد الأدنى من الحيوية. فهذه الأراضي، التي كانت يومًا موائل لأنواع من الطيور والحشرات، باتت اليوم حقولًا ساكنة تهيمن عليها سيقان عشب واحد فقط.

 

انتشرت هذه الظاهرة خلال العقود الخمسة الماضية في مناطق واسعة من المرتفعات البريطانية: من ويلز ودارتمور إلى إكسمور، ومرتفعات اسكتلندا، مرورًا بيوركشاير والبينين. والنتيجة: مناطق رمادية كئيبة على مدار العام، تكاد لا ترى فيها طائرًا أو حتى نحلة.

 

العبور المستحيل

مفارقة مؤلمة تكشفها هذه الأزمة؛ إذ أن كثيرًا من الأراضي التي اجتاحها عشب الـMolinia مصنّفة ضمن “أراضي الوصول العام”، حيث يُسمح للناس بالتنزه والتخييم بحرية. غير أن طبيعة هذه النبتة، التي تنمو في كتل كثيفة وعالية، تجعل المرور خلالها شاقًا وربما مستحيلًا. فعلى سبيل المثال، رغم الحكم القضائي الأخير الذي أعاد حق التخييم البري في دارتمور، فإن طبيعة الأراضي هناك – وقد غزاها العشب الأرجواني – تجعل من هذا الحق نظريًا فقط.

 

نبات محلي… بغريزة الغزو

على الرغم من أن Molinia caerulea نبات محلي، إلا أن سلوكه البيئي بات أقرب إلى النباتات الغازية. فهو لا يتعرض للرعي، ولا تؤثر فيه الأمراض أو التغيرات الطبيعية التي عادةً ما تحفز التنوع البيولوجي. بل على العكس، يعيق هذا النبات التحولات البيئية الطبيعية ويخنق نمو الأنواع الأخرى، ليحكم سيطرته على النظام البيئي.

 

كيف وصلنا إلى هنا؟

ترجع جذور الأزمة إلى عقود من السياسات الزراعية الخاطئة. في النصف الثاني من القرن العشرين، قدّمت الحكومة البريطانية حوافز مالية للمزارعين تُعرف باسم “مدفوعات الرأس”، كانت تشجع على تكثير الماشية دون مراعاة القدرة البيئية للأرض. هذا، إلى جانب حرق الأراضي لتحفيز نمو الأعشاب الرعوية، دفع المنظومات البيئية إلى نقطة الانهيار.

 

وحتى في الأماكن التي توقفت فيها تربية الأغنام منذ أكثر من أربعين عامًا – كما في بعض مناطق جبال كامبريا – لم تظهر أي علامات على تعافي التنوع البيولوجي، إذ لا تزال هذه المناطق محاصرة بالعشب البنفسجي.

 

النيتروجين والتصريف: عوامل تفاقم الأزمة

إلى جانب الضغط الزراعي، ساهمت ترسيبات النيتروجين الناتجة عن الانبعاثات الصناعية وتربية الماشية – والتي تهطل على بريطانيا بمعدل 29 كجم لكل هكتار سنويًا – في تغذية هذا النوع النباتي. كما أدى تجفيف المستنقعات وتصريف المياه لتوسيع الأراضي الزراعية إلى تهيئة بيئة مثالية لانتشار Molinia، خاصةً وأنه يزدهر مع تراجع رطوبة التربة.

 

الإجراءات المطروحة: ترقيع لا علاج

اقترحت بعض الجهات استخدام مبيد الأعشاب “غليفوسات” للقضاء على النبتة، لكنه يترك خلفه أراضي أكثر كآبة وتصبح مستعدة مجددًا لغزو Molinia. البعض اقترح زيادة الرعي أو الحرق المتكرر، لكن هذه الطرق إما عديمة الجدوى أو تضيف ضررًا جديدًا.

 

تقرير جديد صادر عن “ناتشورال إنجلاند” – الهيئة الحكومية المعنية بالطبيعة – خلص إلى أن رعي الماشية لا يُعد ضروريًا لحماية البيئات التي يُهددها العشب البنفسجي، وهو ما يتناقض مع الممارسات السائدة حتى اليوم.

 

الأمل في إعادة الإحياء البيئي

الطريقة الأكثر فاعلية لاستعادة هذه الأراضي تبدأ بإعادة ترطيبها، من خلال سد المجاري المائية وإعادة زراعة الطحالب المستنقعية مثل “سفاجنوم”، وهو ما يساعد أيضًا في الحد من الحرائق. كما أن تشجيع نمو الأشجار المحلية مثل الألدر والبتولا الصفصافية يمكن أن يخلق مظلة طبيعية تقلص من انتشار العشب البنفسجي. فالكثير من هذه الأراضي كانت يومًا ما موائل لغابات مطيرة معتدلة نادرة، وقد يكون بإمكاننا استعادتها.

 

المعركة الأصعب: كسر نفوذ المصالح الراسخة

ورغم وضوح الأزمة وحلولها المقترحة، تصطدم الجهود البيئية بجدار من المصالح المتجذرة – من مزارعي الأغنام إلى أصحاب أراضي صيد الطيهوج – الذين يتمسكون بممارسات تهدد استمرارية أراضيهم ومصادر رزقهم.

 

يبقى السؤال: أين خطة الحكومة الطارئة؟ بل أين الاعتراف الرسمي أصلًا بأن هناك كارثة تتفاقم؟ فكما يقول المثل: “لكي تصلح شيئًا، عليك أولًا أن تراه”. وفي الوقت الحالي، يبدو أن كثيرين في دوائر القرار لا يرون شيئًا على الإطلاق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى