الوكالات

لماذا أصبحت المدن الليبرالية هدفًا رئيسيًا لهجمات اليمين الشعبوي العالمي؟

"المدن الكبرى تحت نيران الشعبوية: صراع الهوية بين الحداثة والتقاليد

 

في السنوات الأخيرة، أصبحت المدن الكبرى في الغرب – من لوس أنجلوس إلى لندن، ومن إسطنبول إلى وارسو – تمثل رموزًا حضرية تستفز اليمين الشعبوي. فالمدن، بما تحويه من نخب ثقافية، ومهاجرين، وحركات يسارية، وسياسات بيئية تقدمية، تُعد في نظر اليمين تمثيلاً “للتحلل القيمي” والانفصال عن التقاليد القومية. وهذا التوتر لا يعكس مجرد صراع سياسي، بل يعبر عن أزمة هوية تاريخية يعيشها المحافظون في مواجهة تحولات المدن العميقة.

المدن في مرمى سهام اليمين: رموز للفوضى والانفلات

أصبحت المدن تُصور في الخطاب الشعبوي اليميني على أنها مرتع للفوضى والانحراف، تعج بـ”الغرباء” من مهاجرين ويساريين ونخب ليبرالية محلية. هذا التصوير يتجاوز البروباغندا إلى سياسات تدخلية مباشرة، كما حدث في لوس أنجلوس عندما وصفتها إدارة ترامب بأنها “مدينة محتلة” وأطلقت عملية أمنية غير مسبوقة ضدها.

رؤساء البلديات: أهداف مكشوفة للانتقام السياسي

لا يقتصر الاستهداف على المدن ذاتها، بل يشمل رموزها السياسية. ففي تركيا، تم سجن رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو – أبرز خصوم أردوغان – بتهم سياسية. أما في بريطانيا، فيواجه عمدة لندن صادق خان تهديدات أمنية مستمرة، مما اضطر السلطات إلى توفير حماية مماثلة لتلك المخصصة لرئيس الوزراء والملك.

المدن تمثل المستقبل… وهذا ما يُرعب التيار الشعبوي

المدن ليست فقط تجمعات سكانية، بل مختبرات للسياسات الجديدة والتنوع الثقافي والاجتماعي. بينما يروج اليمين الشعبوي لسرديات الهوية الواحدة والنقاء القومي، تقدم المدن نماذج معقدة ومتنوعة تُفكك هذه الروايات وتعرض هشاشتها أمام واقع تعددي لا يمكن اختزاله.

تحولات لوس أنجلوس: من رمز محافظ إلى معقل ليبرالي

في الماضي، كانت لوس أنجلوس رمزًا للمحافظة البيضاء، تقاد من قِبل الجمهوريين وتخضع لرقابة بوليسية صارمة. لكن خلال العقود الثلاثة الأخيرة، أدت الهجرة والنشاط المدني والإدارة التقدمية إلى قلب معادلة السلطة، فتحولت المدينة إلى إحدى أبرز قلاع الليبرالية، مما جعلها هدفًا رمزيًا في خطابات ترامب.

هزيمة معنوية: المدن لم تعد تعبر عن “الأمة” في عيون المحافظين

بالنسبة لليمين، لا تمثل خسارة المدن مجرد نكسة انتخابية، بل جرحًا ثقافيًا عميقًا. فمدن مثل باريس ولندن لم تعد تعكس صورة “الأمة” كما يتخيلها المحافظون. رغم إنجازاتها في مجالات مثل التعليم والبيئة، لا تزال وسائل الإعلام اليمينية تصفها بأنها نماذج اشتراكية فاشلة، في محاولة لتشويه صورتها.

المدن ليست كتلًا موحدة… بل فسيفساء سياسية معقدة

على عكس ما يروج له الخطاب الشعبوي، فإن المدن لا تسير في اتجاه سياسي واحد. فعلى سبيل المثال، 40% من سكان لندن صوتوا لصالح “بريكست”، وبعض المهاجرين يحملون توجهات محافظة. كما أن رموزًا يمينية مثل بوريس جونسون ودومينيك كامينغز يعيشون في أحياء متعددة الثقافات، ما يعكس التنوع السياسي داخل المدينة الواحدة.

تناقضات المدينة: بين المحافظة الثقافية وريادة الأعمال

رغم عداء اليمين الثقافي للمدن، إلا أن بها جوانب قد تتوافق مع رؤيته الاقتصادية، مثل تقديس العمل، وارتفاع قيمة العقارات، والطبقية الاجتماعية الواضحة. وهذه التناقضات تُظهر أن المدن ليست حصنًا مغلقًا على فكر بعينه، بل حقلًا للصراع والمساومة.

اليمين الشعبوي لا يسعى لإدارة المدن… بل لإدانتِها

بحسب مجلة “الإيكونوميست”، فإن المدن تحتاج إلى سياسيين براغماتيين قادرين على إدارة شؤون الحياة اليومية. بينما يعتمد السياسيون الشعبويون – أمثال ترامب وفاراج – على مهاجمة المدن لكسب شعبية في الأرياف، دون أي رغبة أو قدرة حقيقية على إدارتها.

المقاومة الحضرية: المدن كخط دفاع ضد الرجعية

رغم كل الضغوط، تظل المدن مراكز حيوية للمقاومة السياسية والاجتماعية. فمن احتجاجات الميادين إلى سياسات البلديات، تقدم المدن دروسًا متكررة في الصمود والتجديد. صحيح أن اتجاهاتها تتغير بسرعة، لكن ذاكرتها تحتفظ بروح التغيير وتنقلها إلى الأجيال القادمة.

 

علياء حسن

علياء حسن صحفية مصرية تحت التدريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى