الحرب في أوكرانيا تقتل بصمت: داخل البيوت لا في ساحات القتال
الحرب في أوكرانيا تُمزق العائلات في صمت: صراعات عاطفية وجراح نفسية خلف الخطوط الأمامية

مع دخول الحرب في أوكرانيا عامها الرابع، تتجه الأنظار في الغالب إلى الجبهات العسكرية، والخرائط المتغيرة، والخسائر بالأرقام. لكن بعيدًا عن عدسات الكاميرات وصخب التقارير الإخبارية، تتفكك خيوط دقيقة في النسيج الاجتماعي الأوكراني—خيوط الأسر والعلاقات الإنسانية. فبينما يخوض الرجال المعارك في الخطوط الأمامية، تُترك النساء والأطفال في مؤخرة المشهد، يواجهون صمتًا عاطفيًا، وضغطًا نفسيًا، وواقعًا متغيرًا لا يرحم.
التجربة اليومية لهؤلاء الذين يعيشون في ظل الغياب والانفصال القسري باتت تحديًا وجوديًا، يحمل في طياته تساؤلات عن الحب، والولاء، والصبر، والمعنى. التقرير الذي أعده الصحفي بيتر بومونت من كييف يسلط الضوء على هذا البعد الإنساني المنسي، ويقدم شهادات حية، وتحليلات نفسية واجتماعية تعكس خطورة ما يجري في صمت البيوت، لا في ضجيج المدافع.
1. وجع الانفصال الأول: حين يغيب الأب ويبكي الطفل
تبدأ القصة مع يوليا، أم لطفلة صغيرة، يتركها زوجها ليقاتل على الجبهة. لم تفهم الطفلة سبب غياب والدها، فرفضت حتى الرد على مكالماته، وكأنها تعاقبه على الهجر. تقول يوليا: “أسوأ شعور كان أنها اعتقدت أنه تركها ولن يعود”. هذا الرفض العاطفي من الطفل يعكس ألمًا نفسيًا لا يقل فتكًا عن أي قذيفة، ويضع الأمهات أمام مسؤولية مزدوجة: احتواء الطفل، واحتواء أنفسهن خلال تلك الحرب في أوكرانيا.
أقرأ ايضا
الصين وأمريكا تتبادلان اللوم في عالم مضطرب: سباق عالمي لكسب الحلفاء
2. علاقات تنهار بصمت: الحرب كـ”مسرّع” للانفصال
تقرّ الأخصائية النفسية ناتاليا أوميرينكوفا أن الحرب لا تخلق المشاكل فقط، بل تسرّع ما هو كامن أصلًا. “إذا كانت العلاقة تعاني من توتر قبل الحرب، فهي غالبًا ما تنهار. أما العلاقات المتينة، فقد تصمد، لكنها تمر باختبارات قاسية.” وتشير إلى أن الفئة الأخطر هي تلك التي تعيش على الحافة، حيث يمكن أن تؤدي الضغوط إلى التلاشي أو إلى صدامات يصعب حلها.
3. الإنهاك العاطفي: كيف تقتل الحرب لغة الحب؟
بعد شهور طويلة من الخدمة العسكرية، يعود الجنود بلسان عسكري ووجدان مثقَل، يتحدثون ببرود، ويختزلون المشاعر في كلمات مقتضبة. تصف يوليانا هذا التحول بقولها: “أصبح كلام زوجي وكأنه رسالة من جندي لزميله، لا من زوج لزوجته.” هذا الانفصال العاطفي يولد أسئلة مؤلمة، أهمها: هل ما زلنا نحب بعضنا؟. وهذا يحدث باستمرار بعض الحرب في أوكرانيا.
4. “نادٍ مغلق للرجال”: الحميمية البديلة في الجبهة.
تلاحظ نساء كثيرات تغيّرًا في سلوك أزواجهن بعد الخدمة الطويلة، حيث تتشكل بينهم وبين رفاقهم في الجبهة علاقات أقرب إلى الأخوّة المطلقة، ما يخلق فجوة مع الشريك في المنزل. إحدى النساء تقول: “يشعر أنه أقرب لمن أنقذ حياته من الموت، أكثر مما يشعر بالقرب مني.” هذا التحول في الأولويات العاطفية يعمّق من أزمة الثقة.
5. الخيانة الصامتة: ما لا يُقال عن الجنود والدعارة.
تفتح أوميرينكوفا بابًا حساسًا حين تتحدث عن لجوء بعض الجنود إلى الجنس المدفوع في مناطق الجبهة، كوسيلة للتنفيس أو كاستجابة لإيقاع الحرب الوحشي. رغم أنه “أمر شائع”، كما تقول، إلا أن انعكاسه على العلاقة الزوجية يكون مدمرًا، حتى وإن لم يُعترف به. هنا، يتحول الجسد إلى ساحة معركة أخرى، لكن هذه المرة بين الشك والتسامح.
6. عندما يتجسد الضغط نفسيًا في الجسد.
تحكي مارينا، زوجة مقاتل مصاب، كيف تفاعلت أجسادهم مع الفقدان: “كنت أشعر أنني فقدت جزءًا مني… ظهرت على جلدي طفحيات غريبة، وكأن جسدي يحتج.” وتصف كيف ساعدتها جلسات العلاج الجماعي في فهم مشاعرها، وتنظيم لحظات الصمت والحديث مع زوجها. تقول: “الآن نستخدم رموزًا خاصة للإشارة إلى المواضيع المؤلمة.”
7. الدعم النفسي: سلعة نادرة في زمن الحرب
تعترف الأخصائية النفسية بأن منظومة الدعم النفسي في أوكرانيا تعاني من نقص حاد. وتقول: “هناك خطوط ساخنة، لكننا لا نكفي. الجنود ليسوا فقط من يحتاج المساعدة، بل عائلاتهم أيضًا.” وترى أن الأجدر أن تبدأ الدولة والمجتمع بمعالجة هذه القضايا الآن. قبل أن يعود المحاربون إلى منازلهم محمّلين بجراح لا تلتئم بسهولة.
8. ما بعد الحرب: هل يمكن للقلوب أن تتعافى؟
ختامًا، تكشف التجارب أن بعض العلاقات تنجو رغم كل شيء، شرط أن يكون هناك استعداد للحوار، والتفهم، والتعافي المشترك. لكن يبقى السؤال: ماذا سيحدث حين يعود الملايين من الجنود بعد سنوات إلى منازل تغيّرت؟ هل سيكون هناك وقت لإعادة بناء العلاقات؟ أم أن الحرب، بكل ما حملته من شروخ، ستترك آثارها لعقود قادمة؟