هل يبقى الفيدرالي الأميركي مستقلًا في عهد ترامب؟
هجوم الرئيس على جيروم باول يعيد التساؤلات حول مستقبل استقلال السياسة النقدية في واشنطن

في وقتٍ تحتاج فيه الأسواق العالمية إلى إشارات موثوقة من البنك المركزي الأقوى في العالم، يخوض رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي جيروم باول معركة صامتة للحفاظ على استقلال المؤسسة النقدية أمام ضغوط متزايدة من الرئيس دونالد ترامب، الذي صعّد هجومه الشخصي والمؤسسي على باول، ووصفه مؤخرًا بـ”الأحمق الكامل”.
مدح أوروبي وانتقاد أميركي
في المنتدى السنوي للبنك المركزي الأوروبي الشهر الماضي، وقفت رئيسة البنك كريستين لاغارد أمام الحضور لتُشيد بـ”شجاعة” باول في قيادة السياسة النقدية الأميركية، وهو ما قابله الحضور بتصفيق حار. لكن في التوقيت ذاته، كان ترامب على منصة “تروث سوشيال” ينشر مذكرة مكتوبة بخط يده، يهاجم فيها باول لأنه “كلف الولايات المتحدة ثروة” بسبب إبقائه على أسعار الفائدة مرتفعة.
اقرا ايضا
رحيل المخرج المصري سامح عبد العزيز: هكذا ودعه نجوم الفن
ما وراء الهجوم: الاقتصاد أم الدَّين؟
في العلن، يبرر البيت الأبيض هجوم ترامب بأنه “حق دستوري في التعبير عن الرأي”، لكنه يربطه بتأثير الفيدرالي السلبي على النمو الاقتصادي. غير أن الخبراء يرون وجهًا آخر أكثر خطورة: ترامب لا يريد خفض الفائدة لدعم الاقتصاد، بل لتقليل تكلفة خدمة الدين العام. وهو ما وصفه نائب رئيس الفيدرالي السابق دون كوهن بأنه “طريق مضمون نحو التضخم”.
“رئيس الظل”.. مناورة لتهميش باول؟
مع تضاؤل فرص إقالة باول قبل نهاية ولايته في مايو 2026 – خاصة بعد أن حسمت المحكمة العليا الأمر لصالحه – بدأ الحديث عن تعيين “رئيس ظل” للفيدرالي، أي شخصية بديلة توحي للأسواق باتجاه السياسات النقدية المقبلة دون أن تشغل المنصب رسميًا. وقد أدى هذا إلى تراجع الدولار لمستويات غير مسبوقة منذ ثلاث سنوات، بحسب وول ستريت جورنال.
ضغوط سياسية تهدد التماسك الداخلي
في مايو الماضي، استدعى ترامب باول إلى البيت الأبيض لمساءلته أمام عدد من المسؤولين. وتبع ذلك هجوم لفظي وصف فيه ترامب باول بـ”البغل العنيد”. ورغم رفض ترامب إعلان اسم بديله المحتمل، أكد أن لديه قائمة مختصرة من ثلاثة إلى أربعة مرشحين، وأنه “لن يعيّن أحدًا يُبقي الفائدة مرتفعة”.
الهيكل المؤسسي للفيدرالي: الحصن الأخير؟
رغم الضغوط، يظل هيكل الفيدرالي عقبة أمام التدخل السياسي الصريح. إذ لا يستطيع الرئيس الفيدرالي تمرير قرارات السياسة النقدية منفردًا دون تأييد غالبية أعضاء اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة، والذين يُعيّن بعضهم من قبل مجالس إدارات إقليمية مستقلة.
وقد أبدى أعضاء حاليون مثل أوستان جولسبي (رئيس الاحتياطي الفيدرالي في شيكاغو) وآلبرتو موسالم (سانت لويس) مواقف نقدية ضد سياسات ترامب التجارية. وهذا التعدد داخل المؤسسة قد يُعقّد مهمة أي رئيس بديل يسعى لخدمة الأجندة السياسية.
دروس الماضي: من آرثر بيرنز إلى فولكر وغرينسبان
تحذّر شخصيات اقتصادية من تكرار سيناريو السبعينيات، حين خضع رئيس الفيدرالي آرثر بيرنز لضغوط الرئيس نيكسون فخفض الفائدة قبل الانتخابات، ما أدى لاحقًا إلى انفجار التضخم وانهيار اقتصادي كبير. في المقابل، صمد بول فولكر في الثمانينيات أمام الضغط السياسي ورفع الفائدة لكبح التضخم، وإن تسبب ذلك بارتفاع البطالة حينها إلى أكثر من 10%.
ترامب يريد الولاء.. فهل يجده؟
يشير التقرير إلى أن ترامب أصبح يعتبر منصب رئيس الفيدرالي “أفضل وظيفة حكومية”، ويبحث عن شخصية “تنفذ أوامره”. لكنه قد يواجه صعوبة في تمرير مرشح مفرط في الولاء داخل مجلس الشيوخ، خاصة في ظل التمسك الواسع داخل الكونغرس باستقلال الفيدرالي.
ويقول الباحث راغورام راجان، المحافظ السابق للبنك المركزي الهندي: “من لديه الحد الأدنى من النزاهة سيرفض المنصب إذا شعر أنه مجرد أداة سياسية”.
الخلاصة: مؤسسة تتماسك تحت الضغط
مع اقتراب الانتخابات، يزداد الضغط السياسي على الفيدرالي. لكن التاريخ والمؤسسات والإجماع المهني تظل حواجز قوية تحمي استقلال السياسة النقدية. جيروم باول، رغم العاصفة، لا يزال ثابتًا في موقعه، مدعومًا من الكونغرس، ومتسلحًا بدرس قديم: من يفرط في خفض الفائدة لأسباب سياسية، سيدفع ثمنًا اقتصاديًا باهظًا لاحقًا.