باليمنًا تشتعل بالكراهية: هل تفسر العنصرية الصريحة مشهد الهجمات ضد الأجانب في أيرلندا الشمالية؟
منذ توقيع اتفاق السلام عام 1998 ("اتفاق الجمعة العظيمة")، تحولت أيرلندا الشمالية من ساحة صراع طائفي إلى مجتمع أكثر تنوعًا.

في تطور صادم داخل بلدة باليمينا الصغيرة في أيرلندا الشمالية، أجبرت الكراهية العنصرية المتصاعدة عشرات العائلات الأجنبية على الفرار من منازلها. هذا المشهد المأساوي أثار تساؤلات حادة حول جذور العنصرية والتعصب داخل المجتمع الأيرلندي الشمالي.
فهل ما حدث في باليمينا مجرد انفجار عنيف مؤقت؟ أم هو انعكاس لمشكلة أعمق وأخطر تعيشها مناطق كاملة في أيرلندا الشمالية؟، وفيما يلي نستعرض أبرز المحاور لفهم ما يحدث في مدينة باليمينا وغيرها من المدن المتأثرة بهذه الظاهرة، وكيف يمكن أن تفسر العنصرية الصريحة تزايد الهجمات ضد الأجانب.
الانفجار: كراهية تتحول إلى لهب في باليمينا
بدأت الأحداث بتفجير الغضب من حشود تجولت في الشوارع الضيقة، تصف السكان الأجانب بـ”الحثالة”، قبل أن تنهال الصخور على النوافذ وتندلع النيران في المنازل. كان بعض المهاجمين يتساءلون صراحة: “هل من في الداخل محلي؟ إن لم يكن، فليُترك يحترق”. رغم عدم وقوع قتلى، فقد خلفت هذه الاعتداءات جراحًا نفسية عميقة وأجبرت العائلات الأجنبية على الفرار، مما يسلط الضوء على عمق مشكلة العنصرية في أيرلندا الشمالية.
تركة “اتفاق الجمعة العظيمة” وظهور التنوع السكاني
منذ توقيع اتفاق السلام عام 1998 (“اتفاق الجمعة العظيمة”)، تحولت أيرلندا الشمالية من ساحة صراع طائفي إلى مجتمع أكثر تنوعًا. لكن بالرغم من هذا الانفتاح، فإن نسبة الأقليات العرقية في الإقليم لا تزال ضئيلة (3.4% فقط). ومع ذلك، تتعرض هذه الأقليات لموجات من الكراهية والرفض العنصري، خصوصًا في المناطق ذات الأغلبية البروتستانتية كبلدة باليمينا، مما يشير إلى تحديات الاندماج وقبول التنوع في أيرلندا الشمالية.
شرارة العنف: حادثة اغتصاب أم ذريعة للتحريض ضد المهاجرين؟
تفجرت التوترات بعد اتهام مراهقين، من أصول رومانية، بمحاولة اغتصاب فتاة. استغل متشددون هذه الحادثة لشن حملة تحريض واسعة على “المهاجرين غير الشرعيين”، حسب وصفهم، ووصفوهم بأنهم “عصابات تستجلب الجريمة”. هذا التحريض يوضح كيف تُستخدم الأحداث الفردية كذريعة لـتأجيج الكراهية العنصرية، رغم أن أغلب الضحايا هم عائلات بسيطة، بينهم ممرضات وأطفال، مما يبرز حجم الظلم الواقع عليهم.
كراهية قديمة بثوب جديد: العنصرية المتجددة في باليمينا
تشير الأحداث إلى أن كراهية “الآخر” ليست جديدة في باليمينا. فقد عُرفت البلدة سابقًا بعدائها للكاثوليك خلال سنوات النزاع. ويبدو أن هذا العداء تحول اليوم إلى “عنصرية صريحة” ضد الأقليات العرقية. تقول الكاتبة مالاشي أو دوهيرتي إن “الرفض ينبع من الشعور بأن المجتمع يتعرض للتخفيف أو التفكك”، مما يفسر دوافع العنصرية المتجددة في هذه المنطقة.
روايات مشوهة ومفاهيم مغلوطة حول المهاجرين
رغم أن نسبة غير البيض في باليمينا لا تتجاوز 5%، فإن الروايات المتداولة بين السكان تتحدث عن “غزو للمهاجرين” و”لاجئين يتقاضون المساعدات دون وجه حق”. هناك فجوة واضحة بين الإحصائيات الرسمية وما يروَّج محليًا، وهو ما يزيد من شرعية العنف في أذهان البعض ويغذي المفاهيم العنصرية المغلوطة.
الصيف.. موسم التوترات المتكررة في أيرلندا الشمالية
يتزامن التصعيد مع موسم “استعراض الهوية”، حيث تنظم الجماعات الموالية للبروتستانتية مسيرات ومواكب مشحونة بالتوتر.
وتشير تقارير إلى أن جماعات قومية كاثوليكية انخرطت هي الأخرى في احتجاجات معادية للأجانب، وإن كان ذلك بشكل محدود. هذا الارتباط الموسمي يسلط الضوء على الجذور التاريخية والاجتماعية للتوترات العنصرية في الإقليم.
المدارس والانقسام: جيل لا يرى الآخر ويغذي العنصرية
تعاني أيرلندا الشمالية من نظام تعليم مفصول طائفيًا، يزيد من عزلة الطلاب عن التنوع الثقافي. وتؤكد الباحثة ريبيكا لودر أن “المدارس قد لا تبعد سوى أميال قليلة عن بعضها لكنها تضم تركيبات اجتماعية شديدة التباين”. كما أن مناهج التعليم تفتقر إلى التطرق الجاد لقضايا العنصرية والاندماج الاجتماعي، مما يسهم في استمرار الانقسام.
تواطؤ سياسي وسكوت مقنّع يغذي الكراهية
رغم إدانات عامة من السياسيين، فإن بعض الأحزاب الموالية، كالحزب الاتحادي الديمقراطي (DUP)، تُتهم بإرسال رسائل متناقضة. على سبيل المثال، انتقد وزير بالحزب إيواء اللاجئين بمركز رياضي في مدينة لارن، وبعد ساعات اندلع حريق فيه، ما دفع مسؤولين للمطالبة باستقالته. هذا التواطؤ السياسي والسكوت المقنع يمنح ضوءًا أخضر لـمثيري الكراهية العنصرية.
التحريض الإلكتروني… نار تشتعل من الشاشة
ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تأجيج الأزمة بشكل كبير. فالمحرضون نظموا المظاهرات عبر “فيسبوك” و”تيك توك”، فيما كان بعض مثيري الشغب يبثون أعمالهم مباشرة ويطلبون من المتابعين الإعجابات والدعم المالي. بدا وكأن المشهد تحول إلى “عرض” يستعرض فيه الغاضبون قوتهم، مما يؤكد دور التحريض الإلكتروني في نشر العنصرية والهجمات ضد الأجانب.
ما جرى في باليمينا ليس مجرد حادث معزول، بل هو انعكاس لعقد اجتماعية متجذرة في أيرلندا الشمالية. حيث التفاوت
الاقتصادي، والانقسام الطائفي، وقلة الوعي بالتنوع، تفرز موجات من الكراهية والعنصرية. ما لم يُعاد النظر في المناهج
والسياسات والخطاب السياسي، فقد تتكرر هذه المشاهد في أماكن أخرى، بأشكال أكثر تطرفًا، مما يهدد استقرار المجتمع وسلامة الأجانب.